عساف المقاوم.. وغزة الجديرة بالإنصاف

TT

ليس من الإنصاف النظر إلى محمد عساف كما لو أنه طلْع جميل العطاء في صحراء كانت من قبله جرداء. في الآن نفسه، ثمة خطر أن نجم «آراب آيدول» قد يغر خلال بضع سنين، فيخيل له أنه لم يعد كغيره من البشر.

أبدأ بالمكان، وأعود للشخص. بقدر ما هو مفرح حجم الفرح الذي رافق محمد عساف، منذ إطلالته الأولى، وحتى لحظة الفوز، بدا من المحزن أن يتجاوز البعض تميز موهبة الشاب الفائز الغنائية، إلى اعتبار المفاجأة في أنه من غزة.

لماذا؟ ليس ثمة سبب يبرر سوى التقصير في المعرفة. ذلك أمر يحدث لأي فرد. من المستحيل إلمام المرء بتفاصيل تاريخ كل مدينة على وجه الأرض. ولعل في تكرار ذكر غزة، غير المصحوب هذه المرة بحروب ودماء، ما أوجب الدهشة، فالتساؤل، والبحث، بغرض المعرفة.

الواقع أن غزة أعطت في حقول الإبداع كافة عبر مختلف العصور. ومثل غيرها من المدن تزهر الفنون أو تذبل في مروجها وفق أجوائها. لقد عشت صباي في غزة المزدهرة بآفاق جمال متعددة الأطياف، وما محمد عساف سوى حلقة اتصال مع من تفوق قبله في غير فن على مسارحها. لكن غزة الستينات، كما العالم المنتمية إليه في ذلك الزمان، لم تكن تعرف الـ«يوتيوب»، الـ«فيس بوك»، و«تويتر». إنما عرفت موليير، مثلا، وشهدت خشبة سينما السامر رائعة «البخيل» يقدمها للجمهور ممثلون يتقدمهم محمد صوان، بطل المسرحية ومخرجها، ومن بين أولئك تخرج خليل طافش في المعهد العالي للفنون المسرحية في القاهرة، ومنهم طلع عبد الوهاب الهندي، المخرج السينمائي. وعلى مسرح مدرسة فلسطين الثانوية عرضت خالدة شكسبير «روميو وجولييت»، بلغته وبإشراف أستاذ الإنجليزية، كامل عبيد، الآتي من مصر إلى غزة مدرسا، ليستوطنها بعدما يصاهر إحدى عائلاتها. ومن غزة الستينات صدح مهدي سردانة بصوت تردد عبر إذاعة القاهرة، وفيها كتب علي زين العابدين الحسيني الشعر الغنائي، وردد كثيرون معه

«جدف يا مراكبي وودينا

على يافا وهدي في المينا

الشط هناك مستنينا

وموج البحر ينادينا».

تلك إطلالة عابرة، ليست تذكر شيئا عن غزة الشعراء معين بسيسو، هارون هاشم رشيد، علي هاشم رشيد، محمد حسيب القاضي، وغيرهم، أو كتّاب قصة مثل درويش عبد النبي وعبد الكريم السبعاوي، أو صحافيين روادا في مقدمهم زهير بشير الريس، ومنهم محمد زكي آل رضوان، إلياس عزام، أسامة علي شراب، وآخرون غيرهم.

قبل إحدى وعشرين سنة، اكتشفت قطع أثرية في عسقلان، جارة غزة من جهة شمال ساحلها المتوسطي، وأثبت ذلك الاكتشاف أن ظلما لحق بقوم اسمهم في القواميس PHILISTINES وهم قدماء الفلسطينيين في زمن ما قبل الميلاد، الذين نظر إليهم باعتبار أنهم معادون لتذوق الفنون. في عددها الصادر يوم الخميس أول أكتوبر (تشرين الأول) 1992 خصصت جريدة «التايمز» اللندنية إحدى افتتاحياتها لذلك الحدث، فضمنتها ما يلي: «على النقيض من تشويه استمر أكثر من ألف سنة، يطل أولئك الفلسطينيون من تحت رمال الماضي قوما ذوي شفافية وحس فني، كانوا يسكنون القصور، يتجرعون النبيذ، يأكلون من أوان مزخرفة بالرسوم، في حين أن نظراءهم الإسرائيليين كانوا يقطنون الأكواخ، يشربون من جرادل خشبية، ويستخدمون الأواني الصلبة».

ربما يكون في اكتشاف محمد عساف ما يوفر لغزة بعض الإنصاف، فلا ينظر إليها من منظار أحادي الرؤية. وفي الآن نفسه، يبقى الأمل ألا يؤخذ شاب يذكّر كثيرين بشباب نجم «كامل الأوصاف» الراحل، بإغراء الشهرة وسطوتها، فيرضى بأوصاف من قبيل «معبود الجماهير»، وينسى بساطة التواصل مع الجماهير ذاتها. لقد احتل محمد عساف مكانه في قائمة الذين يرقون إلى مصاف الظاهرة في مجتمعاتهم، ومنها ينطلقون إلى العالم. وكما أكد أنه بإبداعه الفني يقاوم الاحتلال الإسرائيلي، مهم جدا له الصمود في مقاومة إغراء غرور النجومية، والاحتفاظ بأعلى درجات التوازن بين الفنان النجم.. وبين الفرد الإنسان.

[email protected]