سلطة الشارع وسياسة الإصغاء!

TT

إبان الثورتين التونسية والمصرية، هللت النخب المعارضة آنذاك لقوة الشارع وتمكنه من إسقاط نظامين عربيين هما التونسي والمصري السابقين. الجميع وقف مذهولا أمام جسارة الشارع التونسي (شارع الحبيب بورقيبة في قلب العاصمة) والشارع المصري (الميدان في قلب القاهرة) في إسقاط ديكتاتوريين الأمر الذي فاجأ العالم وجعله يعيش لحظة فارقة بالمعنى التاريخي، منحت لفضاء الشارع في المخيال العربي رمزية مخصوصة.

في تلك الأثناء كانت النخب التي أصبحت اليوم تحكم في تونس تتغزل صباح مساء بمحمد البوعزيزي و«كل الشهداء» وتوزع في كل الصحف والبرامج الإذاعية والتلفزية الألقاب البطولية على المشاركين في الثورة وضحاياها وأسرهم. ونفس الشيء في مصر حيث استعاد الإنسان المصري ثقته وتسابقت الأحزاب في خطب وده ومغازلته حيث ما من أحد وفي مقدمتهم «الإخوان» كان يتوقع إجبار الشارع المصري الرئيس السابق حسني مبارك على ترك الحكم وإخراجه من الصورة بشكل أقوى من كل التوقعات. أما بعد صعود «الإخوان» إلى سدة الحكم في مصر وسيطرة «النهضة» في تونس على غالبية الحكم، فقد تغيرت النبرة وأصبحت قصيدة الغزل أو المديح أقرب ما تكون إلى قصيدة هجاء علنية تارة ومستبطنة تارة أخرى، إذ أصبحنا نسمع بتخوين الشارع والمتحركين فيه وترديد مقولة ديكتاتورية الشارع. وأصبحت الشرعية التي وهبها لهم من نزلوا إلى الشارع أهم من الشارع وأقوى منه ويبتزون الشارع بها!

إذن نحن أمام خلط للمفاهيم وتلاعب بالمعاني واللغة والمواقف، بل إننا أمام أمثلة حية تؤكد أن بعض النخب السياسية الحاكمة اليوم في بلدان الثورات العربية لم تستوعب الدرس ولم تلتقط الرسالة وهي لا تعلم أن مثل هذا التشخيص يجعلها قريبة جدا وصفا وسلوكا وصورة من النخب التي أطاحت بها الثورة.

إن مطالبة جزء كبير من الشارع المصري الرئيس محمد مرسي، الذي عزله الجيش، بالرحيل يجب أن تذكر مرسي شاء ذلك أم أبى بمطالبة نفس الشارع حسني مبارك بالرحيل. وليست مهمة في هذا السياق وفي هذه الجزئية الأسباب أو الاختلافات بين المطلبين. وليس مجديا أيضا إيهام النفس بأن هناك مسيرات مساندة؛ فالرسالة واضحة وتقول، إن هناك فشلا لا يمكن حجبه بقدر ما يلزم مواجهته والتحلي بشجاعة الاعتراف والمواجهة والصدق. ونفس الشيء في تونس وإن كانت الأوضاع لم تتطور إلى الحد الذي عرفه الوضع في مصر، ذلك أن الانتقادات الموجهة ضد «النهضة» كثيرة وقوية الحجة ولم تفلح إلى اليوم في تحقيق الوفاق المطلوب لأنها محكومة بفكرة أنها صاحبة الأغلبية والظاهر أنها لم تعقد حوارا عميقا وصريحا في داخل الحركة حول الانعكاسات السلبية لتغلغل مثل هذه الفكرة التي ستجعلها مع تراكم الإخفاقات المقصودة وغيرها ممثلة للأقلية، إذ السياسة دائما مفتوحة على المفاجآت وازداد هذا الانفتاح بعد الثورة.

كما أن وجود نوع من الإحباط إزاء مشروع الدستور وعدم وضوح الرؤية والتباطؤ في تحديد روزنامة سياسية وانتخابية دقيقة التواريخ والهيئات.. كل هذا يوحي بإمكانية تكرار السيناريو المصري أو استعادة سيناريو 14 يناير 2011 رغم أن مثل هذه الإمكانية هي ضد الجميع ولا تخدم أي طرف خصوصا أن الاقتصاد التونسي أصبح مهددا أكثر من أي وقت مضى.

واللافت أنه رغم التعثرات في مجال الانتقال الديمقراطي في مصر وتونس تعود في سبب من أسبابها إلى الشارع وحركاته الاحتجاجية، فإن هذه النخب لم تستوعب بشكل معمق مدى أهمية الشارع كقوة وطاقة احتجاجية ولم تضع في بالها جيدا أن هناك من الشعوب العربية اليوم من حررت شوارعها. ويكاد يشكل الفضاء العمومي الكاشف عن مستوى حرية التعبير والمصالحة مع الذات المكسب الوحيد في بلدان الثورات العربية إلى حد اليوم. وهو من زاوية علم النفس الاجتماعي عامل مهم يكشف عن التغيرات العميقة التي عرفتها علاقة الفرد بالدولة وبالمسؤولين.

طبعا لا يعني الاعتراف بسلطة الشارع تسليم الحكم للشارع وطاعته ولكن ما أصبح لا مفر منه هو الإصغاء إلى الشارع السياسي والانطلاق في نقاش أي أزمة من فكرة أن الشارع صاحب الشرعية وأن وظيفة المسؤول إشباع حاجاته الاقتصادية والسياسية واحترام الوعود الانتخابية.

كما تقتضي الصراحة مع الذات على الأقل الاعتراف بأن الثورة قد وحدت الشارع التونسي والشارع المصري في حين أن النخبة الإسلامية التي حكمت مصر وتحكم حاليا في تونس قامت بتقسيم الشارعين التونسي والمصري وهو حال لا تستقيم معه تنمية ولا يجري في ظله بناء.

وإذا ما تمعنا قليلا في أسباب الانقسام سنجد أن النخب الفائزة في الانتخابات التأسيسية في تونس والرئاسية في مصر لا تمثل إلا ناخبيها وتناست أنها عندما تجلس على كرسي الحكم فإنه يجب عليها تمثيل الجميع.

إن تدخل الجيش لمعالجة الأزمة بطريقته، خطوة ساهم أداء الإخوان في اتخاذها ولكنها في الحقيقة أيضا خطوة خطيرة. ولعل السؤال الذي يفرض نفسه: إلى أي حد سيرمي ما حصل في مصر يوم الأربعاء بظلاله على تونس وهل سيلتقط العقلاء الرسالة؟