أنا أكبر محترف للكذب الأبيض

TT

ليس هناك أروع من الكذب الأبيض، إذا كان الهدف منه رفع المعنويات للناس الضعفاء والمحتاجين، كما أنه ليس هناك أسوأ من إزجاء كلمات المديح والنفاق للأقوياء من أجل المصالح الشخصية.

وقرأت ما كتبه أحدهم في مذكراته، ولا بأس أن أشرككم معي في ذلك الموقف الذي تعرض له، وهو يقول:

«كان عندنا بستاني مكسيكي، ربعة القوام حلو الابتسام، فظل عدة سنين يتعهد الحديقة أحسن تعهد، ثم أغراه عمل آخر ينال عليه ضعف أجره عندي، فلم يجد توسلي إليه ولا رسائلي، ولا ما عرضته عليه من مضاعفة أجره، في رده إليّ.

وصرت أتعهد الحديقة بنفسي في وقت فراغي حتى ضقت ذرعا، وأخيرا رآني جار لي، وهو قنصل فنزويلا في كاليفورنيا، ولاحظ سوء ما وصلت إليه الحال، فعرض عليّ أن يكتب رسالة بالإسبانية إلى (جو جونزاليس) البستاني يزين له فيها العودة إليّ.

فخامرني شك عظيم، ولكن لم يمض على إرسال الرسالة يوم حتى كان جو دائبا كعادته يتعهد حديقتي، وقال وهو جذل نشوان: «أنا مسرور بعودتي إليك، فما كنت أعرف أنك تكتب الإسبانية، إنه لشيء جميل».

فلم أستطع صبرا، وسألت صديقي القنصل عن السحر الذي طوى عليه رسالته، فقال غير مكترث: إنه لأمر بسيط، فما زدت على أن كتبت إليه: «رأيت الشجر قد انحنت أغصانه حزنا وكمدا، وسقطت أوراقه كالدموع المنهمرة، ورأيت الورد قد أشاح بوجهه عن وجه الشمس، وأخذ يفقد ما عهدناه من شذاه وعطره، ورأيت الطير كسيفا حزينا قد كف عن ترجيع أغاريده الحلوة - كل ذلك لأنها افتقدت صديقها جو، الذي كان يتعهد الحديقة ويجملها»، وابتسم القنصل ثم قال: «كنت على يقين من أن هذه الرسالة ستبعث الحنين في قلبه» - انتهى.

طبعا القنصل كان كذابا، فلا الأشجار انحنت أغصانها، ولا الورود أشاحت عن الشمس، ولا الأطيار صمتت عن التغريد، ولكن تلك الكلمات فعلت مفعول السحر عند ذلك البستاني البسيط الساذج، دون أن يخسر القنصل شيئا.

وألطف منه وأخبث وأبلغ، ذلك الشرطي الذي توقفت أمامه في الشارع فتاة حسناء، تشكو إليه شابا يضايقها ويتبعها بعبارات الغزل.

فنهره الشرطي وهدده بالعقاب إذا لم يكف عن ذلك، فاعتذر الشاب ومضى في حال سبيله.

غير أن الشرطي لم يتوقف عند هذا الحد، وأراد أن يعطي تلك الفتاة جرعة معنوية، وذلك عندما أخذ يرمقها بنظراته، ثم انحنى قليلا موجها كلامه لها:

اعذريني يا آنستي إذا قلت لك صادقا: إنه لو لم يكن هذا هو وقت عملي، لكنت أنا أيضا تبعتك.

فشكرته مبتسمة، وانطلقت تمشي وتقفز من شدة النشوة.

وهذا هو أسلوبي في الحياة، فأنا أكبر محترف للكذب الأبيض، ألم يكن الشاعر (صادقا وكاذبا) عندما أكد أن (الغواني يغرهن الثناء)؟!

[email protected]