«معجزة» 30 يونيو

TT

بعيدا عن الإعجاز التاريخي الثاني في عامين للأمة المصرية في انتفاضة استعادة الثورة المسروقة، نبحث في أصل الحكاية والجذور.

اشتراك الصعيد - إلى جانب معظم الريف - أصل الصلابة وروح البناء المصرية التي شيدت الأهرامات وإنجازات 7000 سنة، في ثورة 30 يونيو (حزيران) 2013، كانت أول مشاركة «للصعايدة» منذ ثورة سعد زغلول باشا عام 1919. فثورة 2011 اقتصرت على المدن.

بدلا من تحقيق وعوده الانتخابية للبسطاء في الريف والصعيد انشغل الرئيس «المنتخب»، فالمرفوض بطلب أضعاف من صوتوا في الصندوق، متظاهرين وموقعين على طلب إقالته - وجمع التوقيعات كان العمود الفقري لثورة 1919 - وجماعته بأخونة أجهزة الدولة، قوميا ومحليا. الآثار أصابت الغالبية الساحقة من المواطنين البسطاء في مقتل اقتصادي.

الناس غير المسيسين يثورون على ما يهدد لقمة العيش وأمن الحياة اليومية، خصوصا عندما تقوم الدولة بدور الأب الذي يوفر الحماية والدفء والكساء والغذاء للقطاع الأكبر من دافعي الضرائب.

قصة واقعية تكررت في كل أنحاء مصر. مشروع في جامعة عريقة بدأ إعداده منذ 2008 بميزانية تسعة مليارات جنيه لبناء مستشفيات مزودة بأحدث المعدات تابعة لكلية الطب لدراسة وعلاج حالات مستعصية لسكان المناطق الريفية المحيطة. في البداية تجاوز المشروع عوائق البيروقراطية المصرية الشهيرة حتى بدأ الرئيس محمد مرسي «مرحلة الأخونة»، كما يقول عضو المجلس المحلي، مضيفا «كتعيين القوميسار (مندوب الحزب الشيوعي) في كل جهاز في الدولة السوفياتية» حيث وضع رئيس قسم من الإخوان في كل إدارة من إدارات الجامعة والبلدية المحلية، وفرض لوائح جديد تعكس «فلسفة» الإخوان.

دار الصراع بين الموظفين ذوي الخبرة ورئيس الأخونة، وبين اللوائح والواقع فتعطيل المشروع. تأخير منح ترخيص البلدية لمواسير الصرف الصحي أوقف البناء وعرض الجامعة لغرامات بالملايين من المقاولين الذين يخسرون يوميا أجور العمال. مفتش «الأخونة» في المالية، طبق لوائح فتح مناقصة لمواسير الصرف الصحي لم يتقدم لها أحد، فقرر التكليف المباشر بعد ستة أشهر من توقف البناء. لوائح «الأخونة» تقيد الحد الأقصى لصلاحية توقيع مدير المشروع للشيكات، والمبلغ يتجاوز كل صلاحيات الموقعين فوجدوا أنفسهم في انتظار توقيع رئيس الوزراء شخصيا والبناء متوقف للشهر العاشر.

القصة الحقيقية تتكرر في كل أنحاء مصر. وأعطال الأخونة أصابت مفاصل الحياة اليومية في الريف والصعيد في أمور حيوية كتوفير الأسمدة، والبذور والمبيدات الحشرية. ثم في دعم السلع الأساسية، أكبر جزء من الاستهلاك اليومي للملايين. البسطاء غير المسيسين اكتشفوا بالوعي الفطري أن سياسة الأخونة تقف وراء تعطل الحياة اليومية. كتعيين محافظ للأقصر كان ينتمي لجماعة إرهابية قتلت 57 من السياح عام 1997 مما دفع بأهالي الأقصر وأصحاب الأعمال فيها إلى محاصرة مكتبه ودفعه للاستقالة. أضف إلى ذلك الإهانة القومية التي أحس بها الناس باختطاف حراس الحدود المصريين عند غزة، والاعتداء على جنود مصر.

وعندما تجد القوى التي ترفض، تاريخيا، تدخل الجيش في السياسة (الليبراليون، والفنانون والمثقفون، والجمعيات النسائية) تستغيث بالجيش ليخلصهم من تسلط جماعة انتخب الشعب رئيسها قبل عام واحد، فإن في ذلك تناقضا تاريخيا يصعب على العقل استيعابه.

بحسابات الأبيض والأسود، يبدو الأمر انقلابا؛ فماذا كانت خيارات الجيش المصري الأسبوع الماضي؟

العسكر بطبيعة تدريبهم ليسوا ديمقراطيين، لكنهم، بديهيا، وطنيون.

طائرات الجيش المصري التقطت الصور من الجو لحشود، قدرها بيان الداخلية - من التصوير الجوي - مساء الأحد 30 يونيو بـ18 مليونا، 86% منهم يرفعون مطلبا واحدا «ارحل يا مرسي»؛ ولم يكن الأمر مجرد انحياز الجنرالات للأغلبية فقط.

حسب المعلومات الاستخباراتية، التنظيم السري للإخوان لديه أسلحة، ومفرقعات، وتاريخ من العنف والإرهاب منذ ثلاثينات القرن الماضي، وتهديدات باستخدامها للحفاظ على مكسب الرئاسة. فهل كان الجيش سينتظر حتى تقع المواجهات الدموية بين المصريين المتأسلمين وأغلبية المتظاهرين؟

في الوقت نفسه دار الجدل داخل جماعة الإخوان. التنظيم العالمي ينصح باحتواء الأزمة والدخول في ائتلاف حتى ولو بالتضحية برئاسة مرسي من أجل الحفاظ على مكاسب إقليمية (تونس، وغزة، وليبيا، وكثير من مواطئ الأقدام في سوريا). مكتب الإرشاد، وحماس (أو الإخوان فرع غزة) اختار التشدد و«الاحتفاظ بالمكسب التاريخي أو الاستشهاد».

الجيش في مهلة الـ48 ساعة للقوى السياسية دعا الجميع للمشاركة في حوار لصياغة خارطة طريق للخروج من الأزمة. ورغم لقاءات ساعات طويلة مع الرئيس (وقتها) مرسي، فإنه رفض المشاركة هو والإخوان مع بقية القوى السياسية التي شملت تيارات إسلامية كالسلفيين مع الأزهر والكنيسة المصرية. ألقى مرسي قفاز التحدي للشعب بخطابه الذي يلخص في «إما أن أبقى رئيسا رغم أنف الأغلبية أو يحارب المصريون بعضهم البعض».

حسنا فعلت العسكرتارية المصرية بإدخال الأمة تحت مظلة حكم القانون وتوكيل مهام الرئاسة مؤقتا للمحكمة الدستورية العليا، فتدريب القاضي وخبرته أن يحكم بالعدل والحياد.

المرحلة القادمة لاستكمال تصحيح مسار الثورة المصرية حرجة؛ أعداء بناء ديمقراطية مدنية حديثة في مصر سيصورن التغيير انقلابا، فتحرم مصر من معونات اقتصادية وقروض وتسهيلات يحتاجها اقتصادها. الجيش حريص على ألا تتكرر أخطاء 2011 ويتحول العسكر في مخيلة الشعب من أبطال خلصوا الأمة من شبح الفاشية الثيوقراطية الشمولية، إلى أشرار ينتهكون حقوق الإنسان.

أصدقاء الشعب المصري في الإمارات وعمان والكويت وخصوصا في المملكة العربية السعودية (خادم الحرمين الشريفين أول من أرسل برقية تهنئة إلى مصر القانونية على عنوان المحكمة الدستورية العليا) سيلعبون ولا شك دورا إيجابيا في دعم الاقتصاد المصري؛ أما تحدي البناء الديمقراطي، وتصحيح الصورة العالمية عن دور الجيش المصري، فهي مهمة المصريين وحدهم بالإسراع باستكمال ديمقراطية حقيقية ولمصر تجربة ما بعد ثورة 1919 في العهد الدستوري البرلماني التعددي من 1922 – 1954.