هاتف عند منتصف الليل

TT

إنه العاشق الأبرز للكتب في فرنسا. وقد كان برنار بيفو، على مدى عقود، صاحب أشهر البرامج الثقافية في التلفزيون الفرنسي، يقدم للمشاهدين الكتب الجديدة ويحاور المؤلفين ويستضيف الروائيين فترتفع مبيعات كتبهم بالآلاف، بعد بث البرنامج.

آخر كتب بيفو، واحد جمع فيه تغريداته على «تويتر»، لأنه يحب هذه الرسائل التي لا يتجاوز كل منها 140 نقرة طباعية. إنها تسافر بصمت، وتنتشر من دون ضجيج، وتسري بنعومة، مثل القطط البيتية أو السائبة. ومن الـ«تويتر»، يتعلم الثرثارون متعة الإيجاز. وقد دوّن الكاتب، تغريدة بعد تغريدة، ما يشبه اليوميات الخاصة جدا، بكثير من الصبر والفكاهة وشطحات المخيلة. إنه يعتمد على الملاحظة ويسجل ردود فعله إزاء ما يجري حوله، أو يحتدم داخل رأس مخلوق مثله، عاشق للغة. ومن يطالع تغريداته التي تصل إلى مائة ألف مشترك، كل صباح، يجد نفسه أمام نصوص أدبية لذيذة وحميمة.

يهدي المؤلف كتابه إلى ذكرى موريس نويل، رئيس تحرير الملحق الأدبي لصحيفة «الفيغارو» في ستينات القرن الماضي. كان برنار بيفو يعمل محررا تحت يده، ومنه تعلم فن الاختصار، أي تقديم المعلومة في سطرين أو ثلاثة، وكتابة الأصداء على الأحداث الثقافية في خمسة أسطر، والتعليقات في عشرة. وقد كانت مهمته، في بداياته، أن يحرر أخبارا قصيرة تتيح للقارئ أن يلتقط أنفاسه بين مقال طويل وآخر دسم. ورغم طموح المحرر المبتدئ إلى أن يكون من أصحاب المقالات الطويلة، فإنه أحب تلك الطريقة البرقية في الكتابة، لأنها، كما يصفها، اقتصادية ومحددة وملمومة وغير مترهلة. وبالعودة إلى التاريخ، فإنه يصنف البند الأول من شرعة حقوق الإنسان، الصادرة في 26 أغسطس (آب) 1789، بأنها أول تغريدة فرنسية في عهد الجمهورية. لقد جاءت في 136 نقرة طباعية: «يولد البشر ويعيشون متساوين في الحقوق. إن الفروق الاجتماعية لا يمكن أن ترتكز إلا على ما يقدمه الفرد من فائدة عامة».

عندما ظهر الـ«تويتر»، وجد بيفو فيه ضالته وبرع في استخدامه. إنه يوزع تغريدات كتابه على فصول بحسب موضوعاتها: كراهية، افتراق، انفعالات، الكتاب في الليل... ومن لطيف تغريداته: «بعد كل حملة انتخابية، لا بد من تشغيل الغسالات الكهربائية لتنظيف الكلمات المتسخة». ومن أبلغها: «يكتب الرجال والنساء ملايين الكلمات طوال حياتهم لكي يكونوا أهلا لواحدة: الأدب». وفي باب الكراهية: «قل لي من تكره أقل لك من أنت». وفي باب الفنتازيا: «أفضل الكأس نصف الفارغة على نصف الملآنة. فإذا انقلبت سيكون وقعها أخف على فستان جارتي في المائدة». ومن تغريداته الحميمة: «مرغريت دوراس ما زالت تواصل مهاتفتي، منتصف الليل، لكي تقرأ عليّ نصوصها الجديدة».

يرى برنار بيفو أن على كل طلاب الصحافة أن يتعلموا في مدرسة التغريد. ولعل العصفور أبلغ من البني آدم في هذا الزمن.