صدح مرسيل وترنم أميمة وشعر درويش

TT

يبدو أننا جميعا قد أصبحنا مثل موجات البحر التي يحركها الفنان اللبناني مارسيل خليفة وفرقته الموسيقية «الميادين» إلى أقصى لحظات السعادة والفرح وإلى أعمق نقاط الألم والحزن في الوقت نفسه، وكل موجة من هذه الموجات لها لونها وشكلها الخاص بها.. العرب والإيرانيون والأوروبيون والمسلمون والمسيحيون والعلمانيون، وهو ما يشكل وحدة وطنية بين الجميع. ولم يعد مركز «باربيكان» الثقافي مجرد مكان بعد الآن، ولكنه أصبح جزءا من الجنة المفقودة وجوهر الحياة والحب بعد الأداء الراقي الذي قدمه خليفة هناك. وخلال هذا الحفل، شعرت في بعض الأوقات بأنني أغوص في أعمق نقطة في بحر مظلم، وفي أحيان أخرى شعرت بأنني أسبح فوق موجات البحر وأشعر بأشعة الشمس على جسدي.

لقد بات مصدر الإلهام بالنسبة لنا يتمثل في كلمات محمود درويش وصوت مارسيل خليفة وأميمة خليل. وعندما كنت أستمع لصوت خليفة، كنت أقول في نفسي: «السلام عليك أيها السيد مارسيل خليفة!»، على قياس «السيد حسن نصر الله»، وكل منهما لدى البعض بطل وطني في لبنان، فحسن نصر الله يقاتل بالصواريخ والرصاص، ومارسيل خليفة يقاتل بكلمات محمود درويش وصوته وعوده. وكل منهما يحمل رسالة مختلفة، فنصر الله هو منظر الإسلام السياسي ويعتمد على أصوات الصواريخ والرصاص. وعلى الرغم من أن اسم مارسيل مشتق من «مارس» إله الحرب في الأساطير اليونانية، فإن الفنان مارسيل خليفة يستخدم الكلمات ليبعث برسائل الحب والسلام.

ويعيش الأول في ظل ظروف أمنية مشددة، ويشبه «الظل المقدس» ونادرا ما نراه، أما الثاني فلا يمت بأي صلة للظل، لأنه في حقيقة الأمر يشبه الشمس، وهذا الوشاح الموجود حول عنقه وعلى كتفيه يشبه شعاع الشمس الذهبي.

يحمل مارسيل خليفة وشاحه في جميع أنحاء العالم، وفي التاسع عشر من يونيو(حزيران) كان هذا الوشاح ذهبيا، بل كان جزءا من الشمس. وكان هذا الانقسام غريبا بالنسبة لي، الإسلام السياسي والمحبة، والظل والشمس في الوقت نفسه.

دعوني أركز على الموسيقى من وجهة نظر الغزالي، فمن هذا المنطلق لا تعد الموسيقى التي يقدمها خليفة ولا صوته حراما، ولكنهما حلال، ويتعين علينا في حقيقة الأمر الاستماع إليه، من وجهة نظري. ومن الأشياء التي يستخدمها بعض رجال الدين هي كلمة حرام، والتي يجب تجنب استخدامها في هذا المجال. قد لا يكون من السهل فهم ذلك من البداية، ولكن هذا هو جوهر الحقيقة، فهناك تصريح فريد من نوعه للمفكر الإسلامي الكبير الغزالي فيما يتعلق بالموسيقى والغناء والرقص. وقد تحدث الغزالي عن السينما لأنها تضم الصوت والغناء والرقص معا، وفي بعض الأحيان يكون من المستحيل وضع حدود فاصلة بين الثلاثة.

وبناء على رأي الغزالي، فإن قلب الإنسان هو المقياس الأول والأخير للحكم على الموسيقى، ولذا يتعين علينا أن نستفتي قلوبنا، فلو كان شعورنا جيدا وكان هناك نوع من الروحية الراقية وأنت تستمع إلى الموسيقى، فلا مانع من الاستماع للموسيقى. وعلى النقيض من ذلك، لو شعرنا بنوع من الانحراف والانهيار، فيتعين علينا أن نتجنب هذا النوع من الموسيقى. وبمعنى آخر، فإن قلوبنا هي المقياس الحقيقي لمدى حرمة الاستماع إلى الموسيقى. وتغني أميمة خليل أغنية تقول كلماتها:

محمـــد..

يعشعش في حضن والده طائرا خائفا

من جحيم السماء، احمني يا ربي

من الطيران إلى فوق! إن جناحي

صغير على الريح.. والضوء أسود

محمـــد..

يريد الرجوع إلى البيت، من

دون دراجة.. أو قميص جديد

يريد الذهاب إلى المقعد المدرسي

إلى دفتر الصرف والنحو، خذني

إلى بيتنا، يا أبي، كي أعد دروسي

وأكمل عمري رويدا رويدا

على شاطئ البحر، تحت النخيل

ولا شيء أبعد، لا شيء أبعد

ونحن نستمع إلى هذه الكلمات، كان هناك رجل في العقد التاسع من عمره يبكي مثل الطفل البريء. وتعد هذه الدموع بمثابة انعكاس للثقافة والفن المتمثلين في مارسيل خليفة وأميمة خليل ومحمود درويش. وليس لدي أدنى شك في أن خليفة هو سفير الحب والسلام، فهو فنان يعرف جيدا كيف يبعث برسائل المحبة. وعندما أنظر إلى وجه مارسيل خليفة، ولا سيما بعد الانتهاء من أغنياته، أراه وهو يحني رأسه ويغلق عينيه للحظات، وهو ما يمثل مبدأ «المراقبة» في أسمى معانيه. وكانت أغنية «البحرية» هي آخر أغنياته. وفي هذه الأغنية، تشعر وكأنك تبحر معه وأنت تشاهد الأمواج المرتفعة لبحر الحياة والسعادة. وأثناء تلك الأغنية، كان معظم الحضور واقفين يغنون ويرقصون، وكان الرجل العجوز يشدو بكلمات الأغنية، التي تقول:

شدوا الهمة الهمة قوية مركب تنده على البحرية

هيلا هيلا هيييلا هيييي

شدوا الهمة الهمة قوية جرح بينده للحرية

يا بحرية هيلا هيلا هيييلا هييييلا..

وكان الرجل العجوز يرقص والسعادة والأمل على وجهه، وكأنه أحد رجال البحرية. وكنت، كوزير سابق للثقافة في إيران، معجبا للغاية بالفن الذي يقدمه مارسيل خليفة، وأشعر أن الوشاح الذي يرتديه كان جزءا من الشمس التي أطلت علينا في تلك الأيام الحالكة التي نعيش فيها.

لقد خلق مارسيل خليفة وفرقته أجواء رائعة من الحب والحياة، وقدموا أداء يشع بالإنسانية والحب والأمل والسعادة. وأنا في طريقي للخروج من مركز «باربيكان» بعد انتهاء الحفل الموسيقي، كنت أردد قصيدة ابن عربي التي يقول مطلعها:

لقد صار قلبي قابلا كل صورة

وفي تلك الأثناء، نحن بحاجة إلى المحبة لا إلى الصواريخ، إلى الحب وليس الكراهية، إلى السيد مارسيل خليفة! ذلك الفنان الذي يبعث برسائل الحب والسلام ويصدح بكلمات درويش ويغني إلى جانب الفنانة الرائعة أميمة خليل.