أمنا الأرض

TT

الأرض منها خلقنا وإليها نعود ومن خيراتها نعيش وعلى ثرواتها نتنعم. نتعلق بها كما نتعلق بأمهاتنا تماما. الابتعاد عنها يؤذينا ويؤلمنا. هكذا اكتشف الإنجليز فوجدوا أن العيش في شقق العمارات العالية يسبب مشاكل نفسية أكثر من العيش في دار على مستوى أرضي تحيط بها حديقة. ونعرف أن الفلاح الذي يلتصق بأرضه ويعيش على كسرة خبز أصح نفسيا من العامل الذي يشتغل في معمل ويعيش على الدجاج والبطاطا والحلوى. كل الإحصاءات تؤكد أن من يعيشون في الريف ويعملون في الزراعة أصح نفسيا وبدنيا ممن يعيشون في المدينة ويشتغلون بالمهن أو الصناعة أو التجارة. كل هذه الألعاب الإلكترونية العجيبة لا تؤنس الطفل أكثر من حفنة من التراب أو الرمل أو الطين تضعها في يده.

قدر لي أن أكتشف مدى تعلق الإنسان بالأرض قبل سنين طويلة عندما دخلت في أزمة معيشية أودت بي إلى هوس مرضي من الهايبركوندرياك أعطاني آلاما معدية عجز الطبيب عن معالجتها. بقيت أعاني لأشهر منها حتى دعاني أحد الأصدقاء لقضاء يوم معه في بيته الريفي. رأيته يشتغل في إصلاح حديقته الواسعة، فانضممت إليه، أحفر وأزرع وأسقي وأنقل... إلخ. وعندما حل المساء وجلسنا للعشاء، تذكرت أنني لم أشعر بأي وجع طوال النهار. أدركت فورا أن مشكلتي مع معدتي كانت مشكلة نفسية لا غير. وتخلصت من الوهم. ومن حينها جعلت الأرض هدفي ووجهتي. أتحاشى العيش في عمارات ولا أعيش في بيت خال من حديقة. ولا أسمح لأحد غيري برعايتها. كلما أنتهي من كتابة مقالة مضنية، أخرج للحديقة وأنصرف للعمل فيها. وكان لها دور تربوي عجيب في رعاية أولادي. كلما تعصب أحد منهم واحتد وبكى، أخذته للحديقة وسلمته إبريق ماء ليسقي الأوراد: هلم يا نائل، هذه ريحانة عطشانة، أعطها بعض الماء. يفعل ذلك فتنفرج أساريره وينسى مشكلته.

لا تضيعوا فلوسكم في الألعاب المستوردة المكلفة لولدكم. أعطوه حفنة طين أو قبضة من العيدان أو الخشب واشغلوه بفعل عملي. خذوه للحديقة وشاركوه في رعايتها.

ومن يعانون من الأرق أو تشغلهم مشاكلهم لن يجدوا ما يريحهم ويرخي أعصابهم أفضل من ساعة من العمل في الحديقة قبيل المساء. سيأوون لمخادعهم متعبين جسميا منتعشين روحيا. يستلقون على الفراش ويجدون أنفسهم يفكرون في نبتة الورد التي زرعوها أو هذبوها أو نبتة الياسمين التي ذبلت وأوشكت على الهلاك لولا المبادرة لسقيها وإنعاشها. سيجدون أنفسهم يفكرون بهذه اللطائف من الحياة الخضراء بدلا من التفكير بديونهم وخسائرهم ووظائفهم. يخلدون للنوم فإذا بالوردة التي قطفوها أو التفاحة التي أسندوها تراود أحلامهم وتطيب أنفاسهم. كثيرا ما أستفيق من نومي وإذا بي أفكر بالزنبقة التي نقلتها من زاويتها المظلمة إلى مكان مشمس أروق. أفكر بذلك وأنسى هموم ما يجري في سوريا أو فلسطين، أو الأموال التي سرقها مسؤولين ائتمناهم.