لا ديمقراطية من دون ديمقراطيين

TT

ثمة ارتباك بالغ في صفوف متابعي الشأن المصري خلال هذه الأيام الصعبة؛ إذ ليس سهلا على الليبرالي المزمن، الذي يمجد الديمقراطية بلا قيد أو شرط، أن يجد نفسه متضامنا مع قوى دينية يقوم التزامها السياسي على السمع والطاعة. وقد يتردد كثيرون ممن يجدون في «العسكر» أسوأ ظاهرة حكم على امتداد العالم الثالث، في تأييد إقدام «العسكر» على إزاحة رئيس منتخب عبر انتخابات حرة.

غير أن هذا الوضع المأساوي الذي انزلقت إليه مصر بعد سنة من انتخاب الدكتور محمد مرسي رئيسا، وسنتين من إطاحة حكم حسني مبارك ومشروعه «التوريثي»، يحتاج إلى شيء من الواقعية.. والكثير الكثير من الصراحة. فالديمقراطية، من حيث هي ممارسة سياسية، تأتي بأشكال عدة في حقول تجارب مختلفة، وليست إطلاقا وصفة سحرية تنفع في كل مكان وكل زمان بالشكل نفسه والمضمون ذاته.

ثمة «ديمقراطيات» عدة في المجتمعات التي تمارسها أو تزعم ممارستها، فالديمقراطية السويسرية - مثلا - تختلف عن الديمقراطية اليابانية، والديمقراطية الأميركية تختلف عن الديمقراطية الألمانية. وما شاهدناه قبل سنة في مصر خلال المعركة الانتخابية بين الدكتور مرسي ومنافسه الفريق أحمد شفيق تجربة مغايرة للتجارب الديمقراطية التي يمارسها الفرنسيون.

أصلا، ثمة مبدأ بسيط جدا مضمونه أن «لا ديمقراطية من دون ديمقراطيين». وعبر التاريخ رأينا نماذج لأنظمة حكم تسلطية ألغت تداول السلطة في أعقاب وصولها إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع. وفي الولايات المتحدة نفسها دخل البيت الأبيض أربعة رؤساء مع أنهم حازوا من الأصوات الشعبية دون ما حازه منافسوهم.

وبالتالي، ينطوي على وهم كبير استنساخ التجربة الديمقراطية كما لو كانت ثابتا لا يقبل التشكيك، وتاليا تطبيقها في أي بيئة أو مجتمع، ولا سيما في ظل ارتفاع معدلات الأمية، وتواضع التجربة الحزبية، وضعف التقاليد الشوروية والمؤسساتية، ووجود قوى شمولية أو أصولية قوية.

وفي المقابل، يلاحظ كيف تدافع المجتمعات الناضجة ديمقراطيا عن وجودها - وبالأخص في أوروبا - عبر عزل الظواهر المتطرفة عرقيا ودينيا. وحتى عندما تتاح لبعض هذه الظواهر أن تفرض حضورها انتخابيا في بعض البيئات عبر خطاب ديني أو غريزي أو «مظلومي»، كما حدث في الهند، فإنها لا تعمر في الحكم طويلا.

عندما انحصر التنافس في الانتخابات الرئاسية المصرية قبل سنة بين مرسي وشفيق، وجدت نسبة عالية من المصريين أنها مضطرة للتصويت «الوقائي» من منطلق «أهون الشرين» ضد تيار معين.. أكثر مما كانت مقتنعة بأن أحد هذين المرشحين يمثلها بالضرورة. وبالنتيجة فاز مرسي «الإخواني» على شفيق «الفلولي» بفارق ضئيل من أصوات المقترعين. وهنا نذكر أنه خلال جولة الاقتراع الأولى حصل كل من مرسي وشفيق على نحو ربع أصوات المصريين لا أكثر.

ثم إن شعار «الدولة المدنية» الذي رفع خلال انتخابات 2012 الرئاسية كان شعارا مبهما يقصر عن الغاية الحقيقية لقطاع واسع من الذين وقفوا مع التغيير يوم 25 يناير (كانون الثاني) 2011. فبالنسبة للقوى الإسلامية - وعلى رأسها «الإخوان المسلمون» - طرح هذا الشعار بديلا عن مفهوم «دولة العسكر» التي حكمت مصر عمليا منذ 1952. في حين كان هذا الشعار بالنسبة لمعظم الليبراليين واليساريين والقوميين يرفض ليس «دولة العسكر» فحسب.. بل «الدولة الدينية» أيضا.

ولاحقا، رغم خيبة أمل مكونات كبيرة من الشعب المصري، تصرف الرئيس مرسي، الذي يتبع تنظيما سياسيا - دينيا مرجعيته أعلى من الشعب، وأسمى من مؤسساته الديمقراطية، كما لو كان يتمتع بتفويض شعبي ساحق. وبدأ رئاسته بسلسلة من القرارات التي تنم عن قلة اقتناعه بمبدأ الفصل بين السلطات، واتسم برنامج عمله السياسي بالمواجهة والتصادم وليس التوافقات العريضة.

في ضوء هذا الواقع ما كان مستغربا تنامي التململ من نهجه، وتلاقي كل المتضررين من سياساته وممارساته. وكان خير دليل على ذلك أن الفصائل الليبرالية واليسارية والقومية والشبابية التي توزعت أصواتها في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة على مجموعة من المرشحين قررت بالأمس دعم إسناد رئاسة الحكومة إلى مرشح واحد هو الدكتور محمد البرادعي، قبل أن يرفضه حزب النور السلفي.. العائد إلى الاصطفاف مع باقي التنظيمات الإسلامية في أعقاب حادث مقر الحرس الجمهوري.

الآن مصر أمام فرز سياسي واضح في أذهان الجميع من دون تمويه أو تجاهل. بل يمكن القول إن المنطقة العربية برمتها، ولا سيما في المشرق، تجنح إلى التعصب والتطرف والميل إلى الإلغاء، والتكفير.

مع الأسف، هذه حقيقة ما عاد من الجائز التغاضي عنها أو التخفيف من خطورتها.

في مختلف المعسكرات الدينية والطائفية والمذهبية المتصارعة يظهر هذا الجنوح ويتمادى.. من مصر إلى سوريا، ومن العراق إلى لبنان وقطاع غزة واليمن. وخلال الأيام القليلة فقط سمعت عبر التلفزيون قائدا ميدانيا سوريا يتحدث إلى مذيعة لامعة شيعية في إحدى الفضائيات الكبرى مهاجما الشيعة - الشيعة ككل وليس حزب الله - من دون أن يعرف، وربما من دون أن يكترث حتى لو كان يعرف، أن المذيعة اللبقة المتعاطفة معه شيعية. ثم، صباح أمس، بعد تفجير بئر العبد في الضاحية الجنوبية لبيروت ردت مواطنة شيعية على سؤال حول ما حدث فقالت إن «بركة الحسين بن علي (رضي الله عنهما) حمت المنطقة»، وتابعت: «الله ينصر الشيعة ضد التكفيريين (!) والأميركان.. وكلنا هنا مع السيد حسن (نصر الله)».

إذن، نحن اليوم أمام «بيئات حاضنة للفتنة».. تارة تحت مسمى «المقاومة» كما في لبنان، وطورا تحت شعارات «الديمقراطية» كحال مصر، ومرة ثالثة باسم «الثورة على نظام فاسد جائر» كما هو حاصل في سوريا.

الديمقراطية الحقة لا تنسجم مع التطرف، وحتما لا تستر الفتنة. وهنا أتذكر كلمات وينستون تشرشل اللماحة في هذا الشأن إذ قال: «خير حجة تساق ضد الديمقراطية حوار مدته خمس دقائق مع ناخب عادي».