30 يونيو: الاختبار

TT

كنت قد كتبت في هذا الركن (10/ 2/ 2011) مقالا جعلت له العنوان التالي: «في العالم العربي أشياء تتحرك ولكن العمى في الصدور»، وكان مدار المقال هو النظر في حال مصر بعد إزاحة حسني مبارك. كان الموّجه في ما كتبت آنئذ التساؤل عن الشعار الذي رفعه الشارع المصري (الشعب يريد إسقاط النظام). تساءلت: ما النظام الذي يريد الشعب المصري إسقاطه؟ وكان جوابي مباشرا وواضحا فيما كنت أحسب إذ كتبت: يطالب الشعب بإسقاط النظام العسكري الذي ظل قائما في أرض الكنانة منذ يوم 23 يوليو (تموز) 1952. واليوم، بعد ما شهدته مصر منذ 30 يونيو (حزيران) 2013، أجدني أمام وجوب مراجعة الجواب الذي قدمته حينئذ، مراجعة قد لا تفيد الإلغاء والرفض الكليين ولكنها - على نحو ما سنحاول ذلك - تقتضي المزيد من التوضيح، توضيح تفرضه طبيعة المسار الذي سلكته مصر (ومعها العالم العربي بكيفية ضمنية) خلال الزمن الذي يفصل بين الانتفاضتين.

لا مندوحة لنا، توطئة ضرورية، في محاولة فهم ما يجري الآن فوق أرض الكنانة من الرجوع، السؤال الذي يطرحه أهل السياسة وفقهاء القانون الدستوري: أليس ما حدث في مصر - غب خروج 30 يونيو - انقلابا عسكريا؟ أليس فيما جرى، وبالكيفية التي وقع بها، ضرب للشرعية وجعل الأبواب مشرعة على المجهول، وبالتالي تعريض للبلد لخطر دورة من المغامرات قد لا تستقر الأمور معها على حال؟

إذا ضيقنا معنى الشرعية فالتزمنا بالقول الدستوري في حرفيته، فلا شك أن الشرعية تكمن في العملية الانتخابية وفي التفاصيل الجزئية التي تتعلق بها، وفي هذا المعنى فإن فيما جرى في مصر خروج عن الشرعية. بيد أننا متى ذهبنا إلى «روح القوانين» فإن الجواب يكون آخر لأن طرائق النظر والتقويم تختلف جملة وتفصيلا. ذلك أن معنى الشرعية لا يكون، وجوبا، ملتصقا بالمسطرة المعتادة، فللشعب أن يعبر عن إرادته بكيفية مباشرة شريطة أن يكون الرأي ما تقرره الأغلبية وتلك - تبسيطا للقول - هي الشرعية الثورية، ذلك هو منطق الثورات. غير أننا نجد فيما حدث في مصر، وبالكيفية التي حدث بها خاصة، ما يحمل على القول بالخروج كلية من دائرة الاختيارين، صندوق الانتخاب من جانب، والشرعية «الثورية» من جانب آخر.

فمن جهة أولى كانت هنالك الدعوة إلى إدانة حكم الرئيس محمد مرسي عن طريق التوقيع على البيان الذي حررته ودعت إليه تنظيمات من المجتمع المدني لقيت تأييدا من بعض قوى المجتمع السياسي المصري (فهناك اقتراب كبير من تقنيات التصويت والتعبير عن الرأي تعبيرا ممهورا بتوقيع الشخص الذي يبدي موافقته لما ورد في البيان وكذا استجابته للدعوة إلى الخروج والتظاهر السلمي في التاريخ المعلوم). ومن جهة ثانية كان هنالك فعل الخروج ذاته في مسيرات سلمية شملت مدن وقرى مصر برمتها وقدرها المراقبون الأجانب بملايين كثيرة وصفت بأنها لم يسبق لها نظير في تاريخ المنطقة كلها وبأنها فاقت أعداد الذين خرجوا في 25 يناير (كانون الثاني) 2011. لم يكن للجيش المصري حضور مباشر، بل الأقرب إلى الصواب في التعبير أن يتحدث المرء عن وجود في الصفوف الخلفية وعن امتناع عن التخلي إلا أن يتعلق الأمر بتهديد مباشر للأرواح والممتلكات، وبالتالي الخروج عن الطابع السلمي. والحق أن وسائل الإعلام نقلت مشاهد حية مذهلة وبليغة في التعبير عن رفض النظام القائم في مصر منذ سنة ونيف تعبيرا مدنيا، فمن الظلم والمماحكة إذن أن ينعت ما حدث بالانقلاب العسكري. من الغرابة فعلا أن يقر المرء بوجود انقلاب عسكري يخلو من عنصر المفاجأة والانفراد بالرأي والساحة ويكون الفاعلون فيه قوى مدنية على النحو الذي كان الجميع شهودا عليه. دعوة إلى الخروج إلى الميادين من جهة أولى، واستجابة خارقة للعادة، من جهة ثانية، وإصرار واعتصام بالميادين أياما متصلة من جهة ثالثة، ومصاحبة أو رعاية ومباركة من الجيش من جهة رابعة. أطراف أربعة تمثل جميعها أمام اختبار عسير. غير أننا نجد أن 30 يونيو يجعل أطرافا أربعة أمام الاختبار.

الطرف الأول، هو المؤسسة العسكرية في مصر والاختبار، من جهة نظرنا بطبيعة الأمر، اختبار لقدرت الجيش المصري على مجاوزة «العقيدة» التي كانت المؤسسة تعمل بموجبها منذ قيام ثورة 23 يوليو وظلت، فيما نحسب، ملتزمة بها طيلة الفترة الناصرية على الأقل، لسنا نقصد بالعقيدة الإيمان بالدفاع عن الأمن القومي المصري والالتزام بخدمة الأهداف المعلنة في ثورة الضباط وإنما نقصد بها العقيدة في مكوناتها واعتقاداتها الأخرى وأهمها اثنتان: القول بالعقيدة المذهبية للوحدة العربية في تعبيرها الناصري، تلك التي كانت تقضي بوجوب العمل على تحقيق وحدة عربية اندماجية، هدفها البعيد إرساء قواعد دولة واحدة من المحيط إلى الخليج يكون التمهيد لها بالعمل على تجسيد نظرية «الإقليم القاعدة». وبموجب هذه النظرة جرى تصنيف «الأقطار» العربية في أقطار ثورية أو تقدمية تنبغي مساندتها بكل سبيل والوقوف في صفها متى تعلق الأمر بصراع يجعلها في مواجهة الأنظمة «الرجعية»، وأخرى يجب في حقها خلاف ذلك. الأمر الثاني، الاعتقاد في شرعية الانخراط المباشر للجيش في الحياة العامة والتقليل من قيمة المسلمات الكبرى للفكر الديمقراطي الأصيل الذي يجعل من الجيش مؤسسة أولى وفاعلة في الدولة الحديثة، بل وضرورة حيوية لوجودها غير أن لهذه المؤسسة الكبرى والأساسية مجالها الحيوي الخاص بها، وهو مجال يفرض عليها الابتعاد عن الشأن العام وإدارته. كل ما نشاهده في مصر يدل على أن الجيش يحملنا على التقدير بأنه قد جرى نوع من النقد الذاتي ومن استخلاص العبرة من درس 25 يناير أو أن ذلك ما نرجوه.

الطرف الثاني، هو المجتمع السياسي في مصر، وصفوة القول إن على الطبقة السياسية في مصر أن ترقى إلى مستوى الآمال العريضة للشعب المصري وأن تمتلك القدرة على القيام بدورها بالنقد الذاتي الضروري ومن ثم استخلاص العبرة مما كان سببا مباشرا في دخول النفق الذي امتلك 30 يونيو إخراج مصر منه.

الطرف الثالث، هو حركة تمرد، والاختبار امتحان لقدراتها الذاتية على تقدير المرحلة المقبلة.

أما الطرف الرابع، فهو الشعب المصري العظيم، و30 يونيو اختبار لسلامة جسده الوطني وقوة وتماسك هويته المميزة.. حفظ الله أرض الكنانة وشعبها.