رمضان بلا ضجيج

TT

أتابع بذهول كبير «المهرجان الاستهلاكي السنوي» المرتبط بشهر رمضان الفضيل. فحجم الاستهلاك بمعناه العريض والواسع بات ليس مجرد ظاهرة ولكنها تحولت إلى طبع متأصل في المجتمعات بصورة عامة. فالمواد الغذائية (في شهر الصوم) تشهد قفزة نوعية لا مثيل لها على مدار العام، بل هناك بعض السلع (شراب فيمتو الشهير مثلا يبلغ استهلاكه وحملته الدعائية خلال شهر رمضان وحده أكثر من 80% مما يستهلك ويصرف على الإعلان خلال سائر شهور العام) وكذلك سلع أخرى مثل التمور وحبوب الشوفان المستخدمة لحساء الشوربة الحب وعجائن رقائق «السمبوسة» والفول وقمر الدين واللبن، ولكن المدهش أكثر هو تحول الشهر بالتدريج إلى الشهور الأكثر «صرفا» و«استهلاكا»، فها هي شركات السيارات تقدم «أهم» عروضها في هذا الشهر وكذلك شركات الأجهزة المنزلية بمختلف أشكالها، بل إن بيوت الفخامة للساعات والجلود والعطور والمجوهرات هي الأخرى لحقت بالركب وباتت تقدم أهم العروض في تخفيضات قياسية ومهمة، وبيوت الأزياء ومحلات التجزئة بصورة عامة تساير هي الأخرى حمى الاستهلاك في رمضان. كل ذلك صب في أحضان شركات الدعاية والإعلان التي باتت تروج بالتالي في خططها الإعلانية أن شهر رمضان هو «الموسم» وهو «أساس» خطط الصرف الإعلاني وأن ميزانية الدعاية والإعلان خلال شهر رمضان المبارك تحديدا ممكن أن تكون أكثر من 50% من ميزانية العام كله كمتوسط عام لمعظم الشركات والمنتجات والخدمات وهي نسبة أقل ما يقال عنها إنها مذهلة وغريبة جدا.

مع العلم أن هناك مواسم أخرى معروفة ويجري التعامل معها علانية كجزء أساسي من خطط سياسات الترويج والإعلان، مثل مواسم العودة إلى المدارس وموسم الصيف وإجازاته واليوم الوطني والحج وإجازة الربيع ولكن يبقى موسم شهر رمضان له نصيب وحصة الأسد بلا منافسة حقيقية. وانعكس هذا الأمر بشكل هائل وبوضوح كبير على شاشات التلفزيون التي تحولت إلى منصة إنتاجية للدراما التلفزيونية حتى تحول لفظ الدراما الرمضانية إلى كلمة ذاتية المعنى وتعرف نفسها للمتلقي من دون الحاجة لتفسيرات أوسع ولا شرح أكبر حتى وصلت الأمور إلى أن تكتظ شاشات التلفزيونات العربية في كل البلاد العربية بلا استثناء بأرتال من المسلسلات الاجتماعية والتاريخية والسياسية والكوميدية، تبدأ من بعد الظهر إلى قبل السحور في صراع محموم على نيل رضا وعين المشاهد لأجل الحصول على أكبر قدر ممكن من العوائد الإعلانية. ولم تستثن الحمى الاستهلاكية المظاهر الدينية: فها هي الجمعيات الخيرية تبذل قصارى جهدها (بعد أن تكون في ثبات عميق جدا خلال العام) لتجديد حملتها الإعلانية خلال رمضان.

وكذلك الأمر بالنسبة لحملات العمرة ورحلاتها التي شهدت ارتفاعا أسطوريا في أسعارها من الخدمات المصاحبة من فندقة وسفر ومواصلات وتموين حتى تحولت المسألة في بعض جوانبها من تقرب إلى الله بمناسك عظيمة إلى تبذير علني يفقد المسألة بهجتها. مسألة ربط المواسم الدينية بالاستهلاك التجاري ليست حصرا على المسلمين وعلاقتهم برمضان ولكن المسيحيين يفعلون ذلك (ويشتكون من تلك المسألة كثيرا) مع مواسم الكريسماس وأعياد الميلاد وكذلك اليهود في روش هاشانه (أو رأس السنة) بحسب التقويم اليهودي، ونفس الشيء بالنسبة لرأس السنة الصينية وبعض المناسبات الهندوسية أيضا.

رمضان «خطف» منا وأصبح له لون وطعم وشكل ورائحة غير التي عرفناها قديما. ضوضاء عالية وإزعاج عقيم في كل مكان، مرآة لنفوس الناس ولا شك فمن أين سيكون النقاء والصفاء والهدوء والسكينة وسط كل هذا الضجيج. أكثر من أي وقت مضى أفهم معنى الدعاء المأثور اللهم أعنا على صيامه وقيامه.

كل عام وأنتم بألف خير وبضجيج أقل بكثير.