شمس الحضارة تشرق على العرب!

TT

نعم، شعرت بوهج الحضارة، بأشعتها الذهبية، وهي تلامس وجهي بشكل ناعم على بعد آلاف الكيلومترات من مصر. وكان شعورا مريحا ساحرا. هبت عليّ نسمة منعشة خففت عني قيظ هذا الصيف الساخن بكل معنى الكلمة. وكل ذلك بفضل ما يحصل في مصر منذ ذلك اليوم المبارك 30 يونيو (حزيران)، حيث خرجت مصر عن بكرة أبيها لتصحيح الثورة والمسار. كان كانط يقول معلقا على الثورة الفرنسية التي بهرته مثلما بهرت هيغل وشيلنغ وهولدرلين وبقية الكبار: ليس المهم فقط من يشارك في الثورة بشكل مباشر. المهم أيضا من يتحمسون لها عن قرب أو بعد. فالحماسة العارمة المحيطة بالثورة، المحبة للثورة، تحتضن الثورة وتحميها. هل تعتقدون بأن كانط كان سيتحمس للثورة الفرنسية لو أنها كانت أصولية مسيحية؟ مستحيل. لا يمكن لكبير فلاسفة التنوير الأوروبي أن يتحمس لثورة تعود بأوروبا إلى الخلف، إلى العصور الوسطى ومحاكم التفتيش والعصبيات المذهبية المشتعلة. ولكن المهم أكثر، يقول كانط، هو أن الثورة كشفت عن ذلك الكنز المخبوء في أعماق الإنسان، الذي لا يقدر بثمن، ألا وهو: استعداده الأخلاقي لفعل الخير، للتضحية بنفسه من أجل المصلحة العامة إذا لزم الأمر، لفعل كل ما بوسعه من أجل أن تتقدم حركة التاريخ إلى الأمام.. وهذا ما يفعله شباب ميدان التحرير في هذه اللحظات بالذات حيث يختلط التيار الليبرالي بالتيار الإسلامي السمح الحريص على مصلحة مصر ومستقبل مصر بكل أبنائها دون أي نبذ لأحد على أساس طائفي. هذا ما ابتدأ يحصل بعد 30 يونيو الذي يمكن اعتباره بمثابة التدشين الثاني والحقيقي لثورة 25 يناير. لكن بعد أن تحدثت عن عودة الحضارة إلى أرض العرب من مصر اسمحوا لي أن أغطس قليلا في التاريخ البعيد أملا بتوسيع الإشكالية أو تعميقها.

يجمع المفكرون شرقا وغربا على أن انهيار الحضارة العربية الإسلامية ترافق مع موت الفلسفة وتكفير الفلاسفة. فإبان العصر الذهبي كانت الفلسفة منتعشة ومتعايشة مع العلوم الدينية. صحيح أنه كان هناك توتر صراعي بين الطرفين ولكن لم يكن هناك إلغاء أو تحريم قاطع. ولم يكن الإسلام آنذاك يمنع البحث العلمي في أي مجال من المجالات، بل كان يشجع عليه. ولولا ذلك لما ازدهرت الحضارة العربية أصلا وأشعت على العالم. لولا ذلك لما تفوقنا في علم الجبر والهندسة والكيمياء والبصريات والفلك والطب والفلاحة والري... إلخ. هذا بالإضافة إلى الأدب والشعر والنثر والمؤلفات الدينية والفلسفية الكبرى. ولكن بدءا من مرحلة الدخول في عصر الانحطاط أصبح البحث العلمي مشبوها، بل ويشكل بدعة مذمومة وخروجا على الدين. وأصبحت الفلسفة كفرا وأبيح دم الفلاسفة مثلما أبيح دم المعتزلة حتى يتوبوا. وكان أول من كفر الفلسفة ممثلة بشخص الفارابي وابن سينا هو حجة الإسلام أبو حامد الغزالي. جاء ذلك في كتابه الشهير: «تهافت الفلاسفة». ولكن سبقه كتاب يستعرض بشكل موضوعي رائع «مقاصد الفلاسفة» إلى درجة أن الأوروبيين عندما ترجموه اعتقدوا أن الغزالي فيلسوف أو مؤيد للفلاسفة بسبب عدم اطلاعهم على الكتاب الثاني الذي تلاه! كل هذا قد يكون معروفا للقاصي والداني. ولكن الشيء غير المعروف كثيرا هو أن ابن رشد الذي رد على الغزالي في كتاب شهير يدعى «تهافت التهافت» لم يستطع عكس التيار، لأن الحضارة العربية الإسلامية كانت قد انزلقت في خط الانحدار بشكل لا مرد له ولا مرجوع عنه. لقد انتصر الغزالي على ابن رشد ونحن لا نزال ندفع فاتورة هذا الانتصار حتى اللحظة. وهكذا آذنت حضارتنا بالأفول وانتقل مشعل النور إلى أوروبا بدءا من عام 1198 تاريخ موت ابن رشد بالذات. وأصبح ابن رشد تيارا فكريا كبيرا في كل جامعات أوروبا. ثم تكرس هذا الموقف المعادي للفلسفة على مدار العصور الانحطاطية حتى أصبح جزءا لا يتجزأ منا، بل وأكاد أقول من جيناتنا الوراثية! واليوم عندما تفتح على إحدى الفضائيات الدينية تجدهم يفتون بتحريم الفلسفة، بل وحتى علم الكلام. فنحن لسنا بحاجة إلى هذه البدع المضلة التي تبعد عن الله في رأيهم. وما حاجتنا إلى الفلسفة إذا كنا نمتلك الحقيقة المطلقة من دون خلق الله أجمعين؟ هذا الموقف المتواصل منذ تسعمائة سنة (الغزالي مات عام 1111) هو الذي أخرج العرب من التاريخ وجعلهم في مؤخرة الأمم والشعوب. ولكن على الأقل فإن الإمام الغزالي كان مفكرا ضخما يعرف ما هي الفلسفة، أما هم فربما لم يفتحوا في حياتهم كلها كتابا واحدا في الفلسفة أو الفكر الحديث. إنهم يعيشون على المائدة الفكرية للعصور الغابرة. انظر كبيرهم الذي يفتي الآن بأن شباب مصر الذين نزلوا بالملايين إلى الساحة لتصحيح مسار الثورة لا يعرفون الإسلام! هل هو وحده الذي يعرف معنى الإسلام؟ لا كهنوت في الإسلام يا شيخنا الجليل ولا بابا معصوم! وهناك فهم آخر للإسلام غير الذي تظنون.. إنه الفهم الذي يصالح بين الإسلام والحداثة، بين الإسلام والتقدم، كما فعل محمد أركون وجهابذة علماء مصر الحقيقيين.

لحسن الحظ فإن السعودية والإمارات والكويت سوف تضخ المليارات في مصر لكي تستطيع الوقوف على قدميها ولكي تنجح المرحلة الثورية الانتقالية الجارية حاليا. فنجاح الانطلاقة الحضارية العربية يتوقف على مصر: إذا نجحت نجحنا وإذا فشلت فشلنا وذهبت ريحنا. كنا نتمنى لو أن شباب الإخوان المستنيرين نسبيا انتصروا على جيل الشيوخ المتحجر عقليا وانضموا إلى العملية السياسية وساهموا في إنقاذ مصر بدلا من عرقلتها ومحاولة تفشيلها وإغراقها. كنا نتمنى لو أنهم استطاعوا إقناعهم بأن مصر الحضارية، مصر الإسلام المستنير، مصر العصر الذهبي، ستنهض على أنقاضهم إذا لم يتخلوا عن عنجهيتهم ونزعتهم التوتاليتارية. أقول ذلك وأنا مليء بالألم والحزن العميق على الضحايا الذين سقطوا في معركة أجبر عليها الجيش إجبارا على ما يبدو.

لا أحد من إخواننا التقليديين المستلبين في الماضي يطرح على نفسه هذا السؤال: إذا كنا نتملك الحقيقة المطلقة، إذا كنا قد ختمنا العلم مرة واحدة وإلى الأبد، فلماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟ لماذا أصبحنا في مؤخرة الشعوب بعد أن كنا في مقدمتها؟ لماذا أصبحنا تلامذة أوروبا بعد أن كنا أساتذتها؟

هذه الأسئلة ما عاد بالإمكان تحاشيها بعد أن أصبحنا مشكلة العالم كله. في القرن التاسع عشر جرى الاتفاق على أن الإمبراطورية العثمانية هي الرجل «المريض للعالم» بعد أن أصبحت عالة على البشرية جراء تدهور أمورها وتفاقم استبدادها وطغيانها إلى درجة مخيفة. وكان ذلك مقدمة لانهيارها. والآن هناك شبه اتفاق بين أمم الأرض قاطبة شرقية كانت أم غربية على أن العالم الإسلامي برمته أصبح «الرجل المريض» للعالم. وبالتالي فليس الغرب هو وحده الذي يكرهنا ويحقد علينا بسبب 11 سبتمبر (أيلول) وتفجيرات مدريد ولندن... إلخ، وإنما الشرق الأقصى أيضا، أي الهند وروسيا والصين واليابان. وهي أمم ضخمة سوف تحكم العالم وتحل محل أميركا بعد عام 2050 وربما قبل ذلك. فما الحل؟ ما العمل إزاء مثل هذا الوضع المتفاقم الذي لم يعد يحتمل؟ هذا ما سنتعرض له مطولا في مقال قادم.