عرب الأحفاد.. وعرب الزهو

TT

كل يوم هناك مشهد عرب فقراء يحاولون التسلل إلى موانئ أوروبا. وأوروبا تطارد مراكبهم القديمة التي يغرق بعضها في الريح والعواصف قبل رؤية اليابسة. ولست أدري ماذا حدث. فما أعرفه أن أجداد هؤلاء العاثرين جاءوا أوروبا فرسانا أو علماء. وكان الفارق في علوم الطبابة بين العرب وأوروبا ثلاثة قرون على الأقل. وفي القاهرة كان مستشفاها الرئيس في القرن الثالث عشر يضم 8 آلاف سرير وأجنحة لجميع الأمراض بينها العقلية. وما هو أهم من كل ذلك أن مصر سلمت إدارة المستشفى إلى العالم الدمشقي ابن النفيس الذي وضع أول تصور للعلاقة بين القلب وجهاز التنفس. ولم يلحق به الأوروبيون إلا بعد 350 عاما.

بقي اكتشاف ابن النفيس بالنسبة إلى الطب الحديث في أهمية الصفر الذي أضافه الخوارزمي إلى علم الحساب. وما عرف بعصور النهضة فيما بعد بني الكثير منه على ما أسسه علماء العرب والإسلام. وفي كل مدينة أوروبية قطنها المسلمون أثر من أثر علمي كبير. من قرطبة إلى مرسيليا إلى ساليرنو إلى صقلية.

تمتلئ هذه المدن اليوم بعرب بلا عمل وأحيانا بلا مأوى. أناس غاضبون جاءوا يستردون شيئا من رصيد الأجداد. يتأملون تقدم الغرب ويتأملون عجزهم ويرون أن الحل الوحيد هو إحراق كل ما هو أمامهم.

القرون الماضية كانت قرون الحلم لا اليأس، والعلوم لا التخلف. كان سيلفستر الثاني أول بابا فرنسي في الفاتيكان. وقبل أن يتوفى عام 1003 كان قد أقر بأهمية المسلمين في الطب والعلوم الأخرى، وتبنى للمرة الأولى الرقم العربي بعدما رمى جانبا تعقيدات الترقيم اللاتيني. تقدمت أوروبا في القرن الثاني عشر عندما بدأت تترجم العلوم الإسلامية. وهاجر علماء من إيطاليا وبريطانيا إلى الأندلس لكي يدرسوا العربية وينقلوا علومها. ونشطت حركة الترجمة، سرا وعلنا، حتى أصبحت قاعدة التقدم العلمي الأوروبي في القرن الثالث عشر وما تلاه. وأعطي العلماء العرب أسماء لاتينية لكي يسهل على طلاب المعرفة حفظها وتمييزها.

يصلون اليوم إلى شواطئ أوروبا على بواخر التهريب والموت. يأتون من بلدان لم يعد أحد يترجم علومها، ومن مدن وعواصم لم تعد جامعاتها معاهد للعلم وصروحا للمعرفة. نتوقف ونلطم، ماذا حدث لنا؟ بلاد لاجئة في الخارج ومحترقة في الداخل. مدن يحرقها العدو مرة ويحرقها الشقيق كل يوم. وشعب يفر إلى الخارج بالملايين، بأسماله أو أمواله، وعندما يصل إلى الشواطئ يتذكر أسماء أجداده.