قبل أن ننقرض

TT

متى ينقرض جيلنا لكي ينظف المكان؟ قرأت السؤال على لسان الشخصية الرئيسية في «طريق الكراكي»، الرواية الجديدة للكاتب العراقي حمزة الحسن. هل بلغنا الحد الذي لا حد بعده وصار من الضروري أن ننقرض لكي تعود مياه الفراتين إلى مجاريها الصافية؟

إنها واحدة من عشرات الروايات التي كتبها العراقيون بعد الحرب. بعد الحروب. لا فرق بين مقيم أو منفي أو مهاجر. لقد امتلك كل واحد قصته الخاصة وكان شاهدا على وقائع تفوق الخيال. ونحن لو كتبنا من الآن وحتى نهايات أعمارنا، أو حتى انقراضنا، لما أحاطت كلماتنا بخصر الكارثة. أليس حمزة الحسن هو صاحب الرأي الذي يقول: «لسنا من يكتب كل هذه الروايات بل الديكتاتور. فهو الذي ارتكب كل شيء، بمنتهى الخيال، ولسنا سوى ناقلين لما حدث».

من عزلته في بلد اسكندنافي بعيد، يرسم الكاتب صورة رجل يعود إلى قريته الجنوبية، بعد سقوط النظام، فيرى في مكانها بقعة عصرية هادئة يرتادها السياح. لقد تغير كل شيء فيها حتى اسمها. كانت «ربيضة» فصارت «فرديسا». كأن كفا جبارة مرت واقتلعت الماضي وغرست شجيرات من دون جذور.

يركب العائد مع سائق يقوده إلى بنسيون يدعى «طريق الكراكي». ومنه يعرف أن البلدة المحاطة بالمياه مرت بعدة تحولات، وقد كانت منتجعا للنخبة الحاكمة. ويقرأ في نشرة سياحية أنيقة أن «فرديسا» هي محطة عبور لطيور الكراكي، التي تهاجر في الشتاء من صقيع روسيا في طريقها إلى البحر الأحمر والمناطق الدافئة. يقول له السائق: «يوم غادرت أنت البلد لم أكن قد عملت كسائق سيارة أجرة ولم تكن هذه الأبقار قد ولدت ولا هذه الأشجار موجودة. أنت ترى أن الأشجار المعمرة لا وجود لها. كل شيء قطع ودمر وخرب كما لو أن مقصلة نزلت على رؤوس الجميع. هل ترى ذلك المكان؟». إنه موقع المفاعل النووي القديم.

صاحب البنسيون عقيد سابق وآمر لقوة حماية خاصة في الجيش. يدعو النزيل العائد إلى نزهة في أرجاء المكان بسيارته العسكرية المكشوفة القديمة التي طلاها بالأزرق. لكن الراوي لا يعود خفيفا مرتاح البال. إنه مثقل بماض يمسك بتلابيب ذاكرته، منذ أن كان مجندا في حرب إيران وسائس بغال وحدة عسكرية في أربيل. لقد «فكر في أن الشارع الذي يمشي فوقه الآن يحمل تاريخه هو، وتحولاتهما المشتركة. والشق الذي فتح في جسد الغابة، فتح في جسده أيضا، وبتر الأشجار كان يقابله بتر ذاكرته. وكما تنهض البلدة من الرماد والتحريم والامتلاك، يحاول هو، بهذه العودة، النهوض من حطام الأيام والمنافي».

تدخل الرواية في تناص مع رواية سابقة للكاتب بعنوان «الأعزل». وفيها يلتقي جندي بحبيبته أثناء إجازة قصيرة. والاثنان محكومان بالموت. فالهاربة من بيت العائلة تقتل وتلقى جثتها في النهر. والجندي الهارب من الجبهة يعدم وترمى جثته في المزبلة. إن الأنهار معتادة على جثث الجنود. وكذلك سفوح الجبال في الشمال، حيث تنتظر الأرامل ذوبان الثلوج للعودة برجالهن. يكتب حمزة الحسن أن «الهزيمة كانت واضحة بلا حرب أو سلاح ولا معارك ولا جيوش. لأن المخلوقات المهانة والمستباحة والخاوية من الآدمية والمعبأة بالخوف والدونية، لا تصنع نصرا ولا تبني منزلا آمنا».