برقع وقناع.. جمال وسياسة

TT

الغموض قوة، هو بالنسبة للعلم تحد، وبالنسبة للسلطة أداة سيطرة، وبالنسبة للجمال تشويق للمحجوب.

من مظاهر الغموض إخفاء الملامح، وستر الوجه، ولذلك كان «القناع» على الوجه حاضرا بإلحاح في القصص السياسية، القديم منها والجديد في لعبة تجلٍ وتخفٍ.

أشهر قناع عالمي سياسي معاصر، تحول إلى «موضة» هو قناع «فانديتا». وحّد بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، واستخدم في سياق سياسي وسياق رياضي وسياق اجتماعي، بوعي من مستخدميه أو بجهل، أو بمجرد الإعجاب بهذا القناع الذي يحمل بحدّ ذاته شفرته الخاصة، الموحية بالثورة والتقويض.

التاريخ يقول لنا إن هذا القناع مستوحى من قصة حقيقية لمتآمر إنجليزي على الملك جيمس الأول، وكان هذا الشخص، واسمه «غاي فوكس» يخطط بتكليف من بعض أعداء الملك من أنصار الكاثوليكية، لقتل الملك والنبلاء ومجلس اللوردات عبر حفر سرداب تحت مقر المجلس ثم تفجيره بمن فيه، لكن المؤامرة اكتشفت، وقبض على غاي فوكس وإعدامه سنة 1605م ليتحول الرجل لاحقا إلى رمز للهادمين لسلطة الدولة. وصدرت عنه قصص وأفلام.

أخيراً، حسب صحيفة «المدينة» قررت وزارة الداخلية السعودية منع هذا القناع والمعاقبة عليه، وهناك دول أخرى تعامل هذه الموضة بصرامة، مثل موضات أخرى ذات شحنات ثورية أو فوضوية.

لا يهم الحديث عن السياسة، بل عن فكرة القناع نفسه؛ فالقناع يحمل قوة الغموض في دلالته لذلك استخدمه سحرة الثقافات البدائية لإضافة غموض ورهبة، كما استخدمه ملوك الفراعنة للهيبة والفخامة، واستخدمه أيضا بعض الثائرين الباطنيين في العصور الإسلامية، مثل «المقنع الخراساني» الذي قاد جماعة سرية باطنية بمدينة «مرو» بخراسان ضد الخليفة العباسي المنصور، وكان الرجل يرتدي قناعا من ذهب لأن الناس لا يستطيعون تحمل نور وجهه الساطع، كما ذكر الثعالبي، مضيفا أن الرجل كان قبيح الوجه! ثم ظفر به جيش المنصور ولما أيقن المقنع بالهلاك مع أتباعه، وكان برأس جبل، قال لنسائه ومن معه: «أنا صاعد إلى السماء فمن يصعد معي؟»، ثم سقاهم سما وشربه هو وهلكوا.

لكن هناك مقنعا آخر في التاريخ، مبهجا، ليس كالخراساني، هو المقنع الكندي، قيل إنه كان مقنعا لشدة جماله، وقيل بل لأن التقنع من سمات النبلاء العرب، هذا المقنع عاش في العهد الأموي، له شعره الرائع، خصوصا قصيدته الشهيرة التي منها:

وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جدا

فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا

ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس كريم القوم من يحمل الحقدا

هذه أقنعة النبل، وأقنعة التمرد السري، وأقنعة السحر، تبقى أقنعة الجمال التي سلبت العقول خلف ثقوب البراقع وسواد «الطرحة» وخيوط اللثام، هذه غنّى بها شعراء العامية في الجزيرة العربية، من: براقع النفود الفاتنات.. إلى الوجوه الصباح خلف الطرحة السوداء. فيكفيها هذا!