وطن يعافه الموتى

TT

نحن نعرف أن المتمكنين من المواطنين العرب أصبحوا يبعثون بأولادهم للدراسة في بريطانيا بعد أن اشمأزوا من مناهجنا الدراسية، ونعرف أنهم لا يشعرون بشيء من وجع الرأس إلا ويركبون الطائرة لمراجعة طبيب في هارلي ستريت. ونعرف أنهم ما سرقوا مبلغا جيدا إلا ونقلوه فورا لبنك في بريطانيا. أصبح حتى أولادنا، ذكورا وإناثا، يتطلعون للزواج بمن يحمل باسبورت بريطانيا. نعم نعرف كل ذلك وأكثر من ذلك. حتى زعماء المعارضة أخذوا منذ سنوات يهرعون إلى لندن ليحيكوا فيها مؤامراتهم على أوطانهم.

سمعنا الكثير من ذلك. ولكن سيدة عراقية روت لي مؤخرا أن زوجة دبلوماسي عراقي، قد توفيت مؤخرا في القاهرة. وقررت أسرتها الكريمة نقل جثتها من مصر إلى بريطانيا لدفنها في إحدى المقابر البريطانية وإقامة مجلس العزاء والفاتحة في أحد فنادق لندن المعتبرة. استرعى الخبر تفكيري وتأملي.

اعتدنا في أيام زمان، في أيام الخير، على نقل جثث المواطنين العراقيين الذين يتوفون في بريطانيا إلى بلدهم ليدفنوا في تربة عراقية طاهرة. وكانت الحكومة العراقية تتحمل نفقات العملية وتتولى إجراءاتها، فالحكومات التي تمعن في الإساءة لمواطنيها وتضطهدهم وتجيعهم وتشردهم في حياتهم، يبدو أنها تشعر بشيء من الأسف وعذاب الضمير عند موتهم في الغربة فتنقل ما بقي من رفاتهم لدفنها، على حساب الحكومة، في الوطن الذي عذبهم. هكذا كانت الأمور في أيام الخير. كان المواطن عزيزا ومحترما عند موته.

قلما سمعت عن مواطن عراقي يموت هنا ولا ينقلون جثته لدفنها بجوار إمام أو ولي من أولياء الله، وهذا طبعا باستثناء الموتى الشيوعيين الذين يفضلون الدفن بجوار قبر كارل ماركس في منطقة هايغيت اللندنية.

ولكن الظاهر أن القوم أخذوا يفضلون في هذه الأيام الدفن في المقابر الإنجليزية على الدفن في مقبرة عراقية. ومما سمعته قبل أشهر أن رجلا دفنوه في مقبرة الغزالي ثم سمعوا أن القبر المجاور له يسكنه ضابط أمن مسؤول عن تعذيب وموت عشرات المواطنين الأحرار، فخافوا على فقيدهم الغالي فنبشوا قبره والتقطوا جثته خوفا مما قد يفعله بها ذلك الضابط. فتشوا عن مكان لائق أمين وجيران محترمين فلفت نظرهم ضريح مهيب بارتفاع مترين ونصف وكله من الرخام الإيطالي النفيس والمنقوش بالذهبي بشتى الآيات الكريمة. ما إن بدأ الحفار في الحفر حتى سمعوا أن صاحب ذلك القبر كان أكبر لص تولى شؤون الأوقاف الإسلامية وجمع ثروته من أرزاق الأرامل واليتامى. اضطروا في الأخير إلى دفنه في مقبرة أخرى.

وبعد كل هذا الكلام عن جنوح الناس للدفن في بريطانيا، هناك فرصة ذهبية مفتوحة الآن لكل المختلسين والحرامية أن يستثمروا أموالهم في المقابر البريطانية وشركات الدفن الإسلامي. فللقبور في هذه الأيام مستقبل جيد.