أميركا وعازف الكمان؟!

TT

اعتدت السؤال في كل محاضرة ألقيتها في الولايات المتحدة، وعادة ما يكون قرب نهاية اللقاء: «ما الذي تستطيع الولايات المتحدة أن تفعله؟». واعتدت أيضا الإجابة والتي أبدأها بالعودة إلى ملحمة موسيقية يعرفها معظم الأميركيين بعنوان «عازف الكمان على سطح المنزل أو (Fiddler on the Roof). ولمن لا يعرف فإن هذا الأوبريت الموسيقي يعود إلى كتاب جوزيف ستين «تيفي بائع اللبن وقصص أخرى»، ويحكي عن بائع اللبن تيفي اليهودي، الأب لخمس بنات، لكل واحدة منهن حكاية تأخذها بعيدا عن التقاليد اليهودية التي يراها الأب مصدر التوازن والبقاء للأسرة. ولكن الأعراف الاجتماعية الجديدة في زمن القياصرة الروس، حيث تجري الأحداث في عام 1905، جعلت الدولة هي الأخرى تقلب حياة الرجل رأسا على عقب. هذا الكتاب تحول إلى أوبريت موسيقي كتب كلماته شيلدون هنريك ووضع موسيقاه جيري بوك، وذاع صيته خلال السبعينات من القرن الماضي وتحول إلى فيلم سينمائي. ولكن ما كان مهما بالنسبة لي عند طرح السؤال عما تستطيع الولايات المتحدة فعله أن أردد عبارة قالها الأب تيفي: «اللهم أعط القيصر عمرا مديدا، ولكن اجعله بعيدا عنا!».

كانت تلك هي دوما إجابتي على السؤال: إننا نتمنى للولايات المتحدة كل خير، ولكن أفضل ما تفعله بالنسبة لنا هي أن تبقى بعيدة عنا، ولا تفعل شيئا على الإطلاق خاصة في أوقات الأزمات التي من المرجح أن وجود الولايات المتحدة فيها، سوف يقلبها إلى مأساة بائسة. كانت الإجابة دائما صادمة للنظارة الأميركيين، فالأميركي يتصور دائما أن العالم يحتاج له بدرجة أو بأخرى، ولن ينسى الأميركيون أبدا أنهم أنقذوا العالم من طغيان القيصر الألماني في الحرب العالمية الأولى، ومن النازية والفاشية والعسكرية اليابانية في الحرب العالمية الثانية، ولا حقيقة إنقاذهم لأوروبا واليابان بعد هذه الحروب لكي يكون في هذا الإنقاذ إنقاذ للاقتصاد العالمي. ويصبح هذا الاعتقاد حكمة ذائعة حينما يتعلق الأمر بمصر، حيث المعونات والمنح الأميركية ممتدة منذ عام 1979 وحتى الآن؛ ورغم انكماش هذه عبر السنوات فإن النظرة الأميركية ظلت على حالها، وهي أن المصريين يعيشون على العطايا الأميركية رغم أن نسبتها إلى الموارد الخارجية المصرية من العالم العربي، والصادرات، والعاملين المصريين في الخارج، والسياحة وغيرها جعلت نصيب المعونات الأميركية يقل عن 1 في المائة مما يرد إلى مصر. ولذا عندما يأتي مصري، أيا كانت سمعته، ويقول إن أعظم ما تستطيع الولايات المتحدة فعله هو أن تبقى بعيدة عن الأحداث، وأن المصريين يستطيعون تدبير أمورهم بأنفسهم، أو أن من حقهم أن يخوضوا تجاربهم التاريخية دون تدخلات أجنبية، فإن الأمر يبدو صادما.

ولكن الحقيقة لها وجه آخر، وهو أن المصريين، وفيمن أعرفه من العرب، يعتقدون اعتقادا جازما، أن كل ما يجري على أراضيهم لا بد وأن يكون صناعة أميركية أو إسرائيلية، وكلاهما له مصدر واحد في واشنطن. الثورات تنشب وتفشل أو تنجح، ولا بد أن يكون لأميركا فيها يد، أما إذا لم تنشب الثورات أصلا، فلا بد أن ذلك يرجع إلى الرغبة الأميركية في «الاستقرار» والركود. ومن الممكن أن يكون الرئيس المصري «المخلوع» حسني مبارك عميلا أميركيا، بنفس الدرجة التي يكون عليها الرئيس المصري «المعزول» محمد مرسي أداة أميركية. وفي مصر فإن الليبراليين المصريين لديهم قائمة طويلة بأن العلاقات بين الإخوان المسلمين والولايات المتحدة كانت هي الحاكمة خلال السنوات الثلاث الماضية؛ وفي المقابل سوف تجد قائمة طويلة لدى الإخوان المسلمين، وهي ذاتها التي كانت موجودة لدى الحزب الوطني الديمقراطي، والتي تقول إن الولايات المتحدة قامت بتمويل الجمعيات الأهلية المصرية، وأخذت شبابها للتدريب في صربيا وجورجيا للقيام بثورات الربيع والزهور العربية من الياسمين إلى اللوتس.

والحقيقة التي أقول بها دائما في مصر، وفي العالم العربي عندما تتاح الظروف، هي أن دور الولايات المتحدة في تطوراتنا الداخلية، خاصة عندما ترقى إلى مرتبة الثورات والهبات الجماهيرية العظمى، محدود للغاية. وأستند في العادة إلى حجتين: الأولى أن مثل هذه التغيرات التاريخية الكبرى من التعقيد والتركيب بحيث لا تسمح بقراءة صحيحة للدولة العظمى تستطيع على أساسها اتخاذ قرار التدخل وفي أي اتجاه. وفي دولة مثل مصر فإن عدد سكانها ومساحتها والزمن الذي نعيش فيه تكاد تجعل ذلك مستحيلا. فالقضية ليست أن مصر بها 92 مليونا من السكان، ولكن أن هؤلاء ينقسمون إلى شمال وجنوب، وريف وحضر، وساحل وبر، ونهر وبحرين، وطبقات اجتماعية حقيقية فيها الزراع والصناع والبيروقراطية والطبقات الدنيا والعليا والوسطى وما بينهما، وفيها من اليسار واليمين وبين هذا وذاك ما يملأ ساحات عشرات الأحزاب، وآلاف الجمعيات الأهلية، وملايين من المثقفين من كل نوع. في مثل هذه الحالة ليس سهلا على المصريين أنفسهم أن يفهموا بلادهم، فكيف يكون الحال في الولايات المتحدة؟

الحجة الثانية أن الحديث عن تدخل الولايات المتحدة، فضلا عن نجاح هذا التدخل، يعطي الولايات المتحدة منعة فكرية وسياسية لا تتمتع بها. فهناك تصور عربي ومصري أن الولايات المتحدة بما لديها من مراكز للتفكير، والجامعات العظمى، والأجهزة المخابراتية المنيعة، لا بد وأن لديها القدرة أن تعرف ما لا نعرفه، وتفهم ما لا نفهمه. ولكن كل هذه الإمكانيات لم تفلح في إنقاذ الولايات المتحدة من الفشل المستمر، بل إنها أحيانا كانت سببا فيه. وما عليك إلا أن تقرأ كتاب ريتشارد كلارك - منسق شؤون الإرهاب في مجلس الأمن القومي الأميركي في عهد جورج بوش الأب وبيل كلينتون وبوش الابن-: «حكومتك خذلتكYour Government Failed You»، لكي تعرف الحدود الواسعة للخيبة الأميركية وكيف كانت ضحية للتفكير الجماعي الذي لعبت فيه مراكز البحث دورا رائدا منذ كارثة خليج الخنازير وحتى التنبؤ والتعامل مع ثورات وهبات الربيع العربي التي كان فيها من العواصف الرملية ما هو أكثر بكثير من الزهور. لقد فشلت الولايات المتحدة في أغلب المواجهات التي خاضتها بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى عندما نجحت أحيانا في التدخل كما جرى عندما تدخلت المخابرات الأميركية للإطاحة بحكومة مصدق، أو عندما شكلت تحالفا دوليا لتحرير الكويت، فإنها سرعان ما دفعت ثمنا غاليا بثورة دينية في إيران وتفكك مهين للدولة العراقية حتى صار لإيران فيها نفوذ واسع. خلاصة الحجتين أن الولايات المتحدة لديها دوما القليل الذي تفعله، وما لديها من أدوات تكون أحيانا سببا في فشلها، وعندما تنجح في مرات قليلة فإن ذلك يكون مقدمة لكوارث كبرى. لم يكن عازف الكمان مخطئا حينما دعا بطول العمر للقيصر؛ مع شرط بقائه بعيدا عنا؟