مجتمعات قلقة

TT

الحديث الشريف، على صاحبه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، يقول: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه». أتأمل في معنى هذا الحديث العظيم وأراقب الأحوال حولنا فأجد كل الأمور باتت «تعنينا» ولنا فيها أكثر من قول ورأي. والآراء في معظم الأحيان تكون خالية من مبدأ إحسان الظن وخالية من الأدب ولباقة اللفظ والقول. كل القضايا العامة باتت قضايا خاصة، وباتت قضايا دول وشعوب أخرى تخص غيرهم بشكل أساسي مثير للاستغراب.

واليوم مع الانفجار الهائل في ثورة المعلومات والتقنية وتوسع انتشار وسائل التواصل الإلكتروني والاجتماعي بسبب تيسير وسائل استخدامها بشكل واضح ومبسط، باتت المعلومة والأخبار تصل إلى المتلقي بأقل عناء ومشقة وتعب من الممكن تخيله.

وعليه، فإن «التفاعل» مع الأحداث بات متوقعا جدا أن يكون لكل شخص رأي، وأن «يفضفض» بكل ما لديه من سخط وغضب وحنق شخصي وعام على موضوع لا يعنيه بشكل مباشر، ولكنه فرصة لإبراز الرأي والإدلاء بالدلو، وكما يبدو ظاهرا وواضحا جدا المشاركات من «غير» المصريين والسوريين في شؤون بلادهم بشكل مثير للدهشة. فالقضيتان المصرية والسورية تحولتا إلى قضية الكل، وبات الكل يتواصل معهما بأسلوب الفسطاطين الشهير؛ إذا لم تكن معي فأنت ضدي، وهناك دار إيمان ودار كفر، وبالتالي كان الانقسام مهولا فيما يطرح من آراء وأفكار. وأعود مذكرا بأن الحديث ليس عن مواطني البلدين المعنيين هنا على سبيل المثال، ولكن من بلدان أخرى، فهم اعتبروا الأحداث وتطوراتها وتبعاتها بمثابة مسائل تمس الكرامة وتخدش الحياء وتصيب العزة.

فبات الحديث أو الإدلاء بحق طرف أو شخصية والتعرض لها بالنقد فيما يخص الآراء والمواقف والأحداث هو أشبه بالمساس بالدين والعقيدة والخروج من الملة والطعن في المعتقد. وبالتالي يطلب منك الهداية والعودة إلى الحق والصواب والتعوذ من الشيطان، والعكس طبعا هو أنك ضد الشرعية وضد الاستقرار وضد الأمن وضد الأمان.

حالة الضوضاء والضجيج الهائلة الحاصلة الآن لا يمكن «الاطمئنان» إليها، فالكل في حالة شحن وغضب حتى إذا لم يكن معنيا بشكل مباشر بالمسألة ويحس كل طرف «خاسر» أنه فقد شرفه ودينه وكرامته، وبالتالي لا يمكن أن يكون الحديث معه بالعقل والمنطق ما دام يحمل كل هذا الكم الهائل من المشاعر المتأججة.

أنصار محمد مرسي، وتحديدا المتعاطفين مع جماعة الإخوان المسلمين، يشعرون بحرقة قاتلة (لا علاقة لها بشخص محمد مرسي نفسه، فهم على قناعة بأن الرجل كان كارثة وفاشلا في إدارة البلاد)، ولكن الشعور أنهم «وصلوا» لحكم أكبر بلد عربي ولم يكونوا إلا وبالا وأسهموا في تمزيق البلاد وإثارة الفتن والحكم بأسلوب تفريقي انتقامي حتى ثار الشعب عليهم بشكل هائل وحصل ما حصل. وبالتالي هم يعلمون أنهم قد ينتظرون زمانا طويلا قبل أن يستوعبوا الصدمة ويصلحوا من الأسلوب الانتقامي الحاقد الذي أداروا به مصر.

وعليه، فهم بسبب هذا الأسلوب في التفكير لا يرغبون في الحوار مع أي طرف ولا فصيل (إما بأسلوبي وإما فلا)، وهو منطق أرعن وخاسر، وكذلك يقوم بنفس الفعل بشار الأسد وداعموه، وعلى رأسهم الفصيل الإرهابي ميليشيا ومرتزقة حزب الله الذي ضحى بكل رصيده «المقاومي» وخسره في لحظات نتاج قراره الأحمق والأرعن بدعم نظام مجرم وطاغية، وكسب اليوم احتقار وكراهية العالم العربي والمسلم، وعليه فالحزب وبشار لا يحتملان تقديم أي تنازلات أبدا، لأن البديل هو «سواد الوجه السياسي»، أي الخسارة، وهما الآن يخوضان معركة حتى النهاية لا عودة عنها، ولكنهما يحاربان ضد شعب وضد حق، وهي معركة خاسرة حتما بالنسبة لهما.

الضجيج والضوضاء السياسي سيزيد ولن ينقص، وكل الخوف أن نشاهد آثاره في ازدياد الحقد والغضب لأتفه الأسباب ونرى آثار العنف تزداد، وأتوقع أن تنعكس على العلاقات الأسرية وعلاقات الشراكة في الأعمال وحوادث السيارات والعنف في الملاعب وارتفاع العنف الأسري وحالات الطلاق، هكذا هي أحوال المجتمعات المتأزمة والمشحونة والمتوترة والقلقة، وهذا هو وصف دقيق للمجتمعات العربية بصورة عامة اليوم.