إسلاميو مصر عُزلوا ولم يسقطوا

TT

كان المصريون يفخرون بأن العنف الذي تشهده بلدان مثل لبنان وسوريا والعراق يعد شيئا غريبا على بلادهم، ولكن بدأت مصر الآن تشهد أحداثا مشابهة. وبدا وكأن الثمانية عشر يوما العظيمة التي شهدها ميدان التحرير عام 2011 عندما خرج الشعب المصري بجميع طوائفه للمطالبة بإطاحة الرئيس الأسبق حسني مبارك، بدت وكأنها سنوات ضوئية بعيدة. وكان المصريون على قلب رجل واحد - علمانيين ومتدينين ومسلمين وأقباطا وأصحاب النفوذ والثروة والفقراء - للمشاركة في هذه الدراما العظيمة.

والآن، انقسم الشعب المصري إلى قسمين، قسم في ميدان التحرير يمثل العلمانيين الذين يحتفلون بنهاية حكم الإخوان المسلمين، وقسم آخر في ميدان رابعة العدوية بمدينة نصر يمثل أتباع جماعة الإخوان المسلمين المقتنعين بأن المكاسب السياسية التي حصلوا عليها من خلال صناديق الاقتراع قد سرقت منهم.

وإذا كانت الديمقراطية قد أخطأت طريقها وذهبت لجماعة الإخوان المسلمين، فإن القضاء والمصالح التجارية والجيش كانوا على استعداد لنقض حكم صناديق الاقتراع. وحدث صراع بين فكرين أصوليين: الدعوة الدينية لجماعة الإخوان المسلمين واعتقاد العلمانيين بسيادة نظامهم الاجتماعي.

وعانت مصر من مأزق كبير عقب سقوط استبداد مبارك، فثمة فصيل يريد العيش في ظل حكم الشريعة الإسلامية، في مقابل فصيل آخر يرغب في فصل الدين عن السياسية ويرغب في لعب كرة القدم في الشارع ومشاهدة البرامج التلفزيونية وتعليم أطفالهم تعليما علمانيا وتدخين الشيشة في المقاهي حتى ساعة متأخرة من الليل. ويبدو العلمانيون، السعداء بعد حركة الجيش، عازمين على اقتلاع جذور جماعة الإخوان المسلمين. هؤلاء الديمقراطيون، الذين لا يشبهون سوى أنفسهم، يغضون الطرف عن اعتقال بعض قادة الإخوان المسلمين وإغلاق وسائل إعلام خاصة بهم، ولا يأبهون بوضع الرئيس المنتخب رهن «الحبس الاحترازي»، ويبدو أنهم لا يأبهون أيضا إلى أن الاضطرابات التي شهدتها البلاد على مدى الـ30 شهرا الماضية قد انتهت بحركة الجيش هذه. ومع ذلك، لا يرغب الجيش، ولا الذين يرون أن تدخله كان هو طوق النجاة، في إقصاء الإخوان بعيدا، لأن حلم القضاء على الإسلام السياسي من الحياة العامة يعد بمثابة وهم كبير.

لقد شن الزعيم جمال عبد الناصر حملة وحشية ضد الإخوان المسلمين بداية من عام 1954 وحتى وفاته عام 1970، وحظرت جماعة الإخوان المسلمين واعتقل الآلاف من أعضائها، وأعدم سيد قطب، ولكن الجماعة لم تنتهِ. ولن ينجح عبد الفتاح السيسي، وهو وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة، في ما فشل عبد الناصر في تحقيقه، ولن يتمكن من القضاء على المشكلات الأزلية التي تعاني منها مصر والتي تؤدي إلى نمو الإسلام السياسي، فلن يتمكن من القضاء على الفقر المدقع أو يحول بلدا يقوده مصطلح البقاء للأصلح ويترك الضعفاء من دون دعم إلى يوتوبيا حديثة.

ليس هناك شك في أن جماعة الإخوان المسلمين قد تعرضت لانتكاسة مدمرة. وقد يعزي قادتها مشاكلهم السياسية إلى حرص الجيش على استعادة السيطرة على البلاد، ولكن كيف لم يروا الأعداد الحاشدة التي خرجت للشارع للمطالبة بوضع حد لقيادتهم للبلاد؟ ربما يكون هناك مبالغات في ادعاءات حركة «تمرد» بحصولها على توقيع 22 مليون شخص يطالبون برحيل مرسي، ولكن كان يجب الاستماع لمطالب المحتجين. لا يستطيع أحد أن ينكر حالة السخط الشعبي على جماعة الإخوان المسلمين التي دائما ما كان ينظر إليها المصريون بحالة من الارتياب والشك.

المصريون شعب معطاء ويتميزون بالوسطية الدينية، وعندما جاءهم الإسلام من الجزيرة العربية في القرن السابع، كان يجب على هذا الدين الجديد أن يتعايش مع العديد من تقاليد وممارسات الماضي، ولم يسع الإسلام يوما ما للسيطرة على كل شيء لنفسه، أما الخط المتشدد لجماعة الإخوان المسلمين فلم ينتصر يوما ما، ولكنه ظل مقتصرا على أقلية متشددة. لقد ترك مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا، الذي اغتيل عام 1949، لأتباعه إرثا مفعما بالتقوقع وجنون الاضطهاد، وقسم المجتمع إلى أربعة أقسام: المؤمنين، والمترددين، والانتهازيين والأعداء، ولذا لم يكن غريبا أن يفشل مرسي في أن يشق طريقه للخروج من شرنقة هذه الجماعة.

وفي بداية الثمانينات من القرن الماضي، بدأ التشدد الديني يتغلغل في الحياة المصرية، وتراجعت الحداثة. وفي الأماكن العامة، أصبح هناك عدد أكبر من الملتحين والمنتقبات؛ أما الشيء الأكثر إثارة للقلق فيتمثل في الاعتداءات على العلمانيين، ففي عام 1992 اغتيل فرج فودة، وهو رجل علماني لا يعرف الخوف وكان شديد الانتقاد للإسلاميين، على يد ملثمين اثنين على دراجة نارية أمام نجله. وبعد ذلك بعامين، قام كهربائي لم يقرأ كلمة واحدة من روايات الأديب المصري الحاصل على جائزة نوبل في الأدب نجيب محفوظ بطعن الكاتب الكبير في الرقبة وجعله عاجزا عن الكتابة. وكان محفوظ قد تنبأ بالتغيير الذي سيشهده المجتمع، ففي كتابه «يوم قتل الزعيم» عام 1983، وهو عبارة عن رواية خيالية لاغتيال الرئيس المصري الراحل أنور السادات، يقوم رجل عجوز برثاء ما أصاب مصر قائلا: «الأرض، الأرض مليئة بالتعصب. كانوا يرغبون في إعادتنا للوراء.. »، في إشارة إلى اعتقاد جماعة الإخوان المسلمين، وغيرهم من الإسلاميين، بأن الإسلام كان يعيش عصرا ذهبيا في العقود الأولى للقرن السابع، وهو ما يجب أن يحتذيه المسلمون في الحكم.

كان يتعين على مرسي والمكتب السياسي لجماعة الإخوان المسلمين أن يروا نهايتهم عندما فرض حظر تجول في مدن الإسماعيلية وبورسعيد والسويس العام الماضي، حيث تحدى أهالي هذه المدن حظر التجول واجتمع الناس في الشوارع وهم يغنون ويرقصون ويلعبون الكرة ليلا، في إشارة إلى أن رغبات الإنسان العادي قد أصبحت في حالة حرب مع تعصب جماعة الإخوان المسلمين.

الفوز من خلال صناديق الاقتراع لم يوفق بين العلمانيين وشرعية الإخوان المسلمين، وكانت احتجاجات الشارع بمثابة رفض لهذه الشرعية. ومن منطق العلمانيين، كان هناك ضرورة ملحة لإطاحة مرسي. وفي الحقيقة، كان هناك حالة غريبة من نفاد الصبر، ولم يتمكن مرسي من فرض إرادته على النظام السياسي، ولكن الدولة التي تركها مبارك وراءه كانت لا تزال قائمة، حيث لا يمكن محو سيطرة نظام مبارك على الدولة لمدة 30 عاما في غضون عدة أشهر.

ولم يقم مرسي بمواجهة أكثر عنصر كان يجري استخدامه في إرهاب الشعب وهو الشرطة، ولكنه منحهم سلطة أكبر وأعطاهم معدات جديدة وأشاد بهم، ولم يقدم أيا من أفرادها للعدالة لمقتل المئات في المظاهرات المناهضة لمبارك. وقد أثيرت حالة كبيرة من الجدل بسبب «الإعلان الدستوري» الذي أصدره مرسي في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي والذي حصن خلاله قراراته من أحكام القضاء، قبل أن يتراجع في النهاية. وقد اعترف مرسي بنفسه بهذا الخطأ - من النادر في التاريخ المصري الحديث أن يقدم الحكام أنفسهم على أنهم آلهة معصومة من الخطأ.

وخلال هذا العام في سدة الحكم، أذعن مرسي للجيش وأبقى على معاهدة السلام مع إسرائيل وتوسط لوقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل في نوفمبر، وكان حريصا بشكل مبالغ فيه على إرضاء الولايات المتحدة. ومع ذلك، كان كل هذا بلا جدوى. ولم تكن الاحتجاجات الأخيرة التي أطاحت مرسي من عمل الشباب والعناصر الساخطة، حيث اعترف الملياردير نجيب ساويرس، صاحب الأيادي التي تصل إلى العديد من المجالات الاقتصادية والسياسية، بأنه قد سخر وسائل الإعلام التابعة له لمناوئي مرسي. في الحقيقة، لم يكن النظام القديم على استعداد للتخلي عن السلطة.

عندما أطيح بالنظام الملكي قبل ستة عقود، كان هناك قوتان على الساحة: الجيش والإخوان، بينما كانت الأحزاب السياسية العلمانية ضعيفة ومفلسة. وبعيدا عن الضجيج والمظاهرات، هناك شعور لا لبس فيه بأن مصر اليوم في الموضع نفسه الذي كانت عليه في آخر مرة وقفت فيها عند مفترق طرق.

* خدمة «واشنطن بوست»