«اللهم املأ الميادين»

TT

«اللهم صب نقمتك على كل من عادى الإسلام والمسلمين، وأنزل علينا جندا من جندك، وافتح لنا قلوب الناس، اللهم املأ الميادين بجميع المصريين، اللهم إنا نسألك النصر والتمكين، كما نصرت عبادك في بدر وكما فتحت مكة في رمضان أن تنزل آية من عندك تنصرنا، اللهم نصرك الذي وعدتنا».

هذا الدعاء وما هو أعظم منه يتكرر يوميا على مسامع الملايين، وأنا واحد منهم، ممن يتابعون تغطيته على الهواء مباشرة من طرف إحدى القنوات للمعتصمين الإخوان وأنصارهم في ميدان رابعة العدوية، وهو إذا ما أردنا تفكيك مضمونه بقراءة الخطاب الذي يقف خلفه فهو مزيج من التقديس المبالغ للذات، واعتقاد أن لحظة تستحق كرامة ما، إضافة إلى التشبه بحال الصحابة في العهد المكي، وهو ما يعني أن للجماعة خطابين كعادة كل أحزاب الإسلام السياسي بشقيها السني والشيعي: خطابا ظاهرا يتفنن القادة والرموز في التشدق به أمام الغرب كفئة ديمقراطية تواجه صلف العسكر والفلول والدولة العميقة... إلخ. مما بات يعني بعبارة أخرى تواجه كل الشعب المصري الذي لا يدين بفكرة الإسلام السياسي وبات لا يتعاطف معه، وهو الأمر الذي يزيد تصرفات الجماعة وأخطاء الكارثية من ازدياد حجم أعدائها ليس في مصر فحسب، بل في العالم العربي، ويهدد بزوال الفكرة للأبد لكن بطريقة «التدمير الذاتي» وليس بممانعة أي طرف آخر.

الخطاب المضمر وفي رأيي هو الأهم لمن يريد فهم أبعاد المشهد؛ لأنه يمثل قناعات القواعد الشعبية على الأرض والكوادر الإخوانية التي لا تفقه في السياسة سوى أنها مع ما يقوله المرشد والقيادات بالمطلق. هذا الخطاب سيحصر الجماعة في فئة متطرفة راديكالية ستعود للنهج القطبي الانعزالي الذي يمكن أن يرفع السلاح، لكن ليس في سبيل الحاكمية وإنما «الصندوقراطية» التي كان يقاتل ضدها.

الجماعة تنتحر والانشقاقات تتوالى، وما زالت حالة الإنكار تتسيد خطابي الجماعة المضمر والمعلن، القيادات تستقوي بأميركا وتبحث عن قوارب نجاة سياسية بين الأتباع والكوادر تحول الصراع إلى مقدمات حرب أهلية دينية بوقود ودعم مالي ومعنوي من أنصارها في الخارج الذين أيضا يبكون تجربة الجماعة الأم على طريقة «النصرة»، ضاربين بالحائط الآثار الكارثية على الجماعة ذاتها والتي تحظى بحضور لافت في كل بلدان العالم، ومن بينها دول الخليج، لكنهم يصرون عدا استثناءات قليلة في صفوف تيارات منشقة على أن الموت مع «الجماعة» رحمة.

مرسي جزء من الماضي ولا شك، لكن الجماعة يبدو في طريقها لأن تكون كذلك؛ لأنها تعيش مرحلة إعادة تشكل، كما أن فكرة استيعابها في المرحلة السياسية المقبلة مرهون بقدرتها على نبذ العنف الذي إن تأخر سيدفع حتى المعتدلين في مصر إلى المطالبة بحل التنظيم بالقوة وسجن قياداته، وبالتالي شطبه من الحياة السياسية، لكنه من جهة أخرى إيذان بدخول مصر في أتون العنف بسبب ارتداد الكوادر الحزبية إليه.

الإخوان أكبر تنظيم هيكلي لفكرة الإسلام السياسي والذي عاش تجربة الجماعة من الداخل يدرك مدى دقة الهرمية المقتبسة من التنظيمات الشيوعية على مستوى النظرية وتربية الكوادر والأدوار والقدرة على إعادة الترتيب، ومن هنا إعادة الدخول في الحياة السياسية لن تكون عبر بوابة الاستقواء بالغرب؛ لأنه مرتبط بتكييف المسألة سياسيا في الذهنية الغربية بما يوافق مصالحه، وهو أمر يخطئ في فهمه كل الأطراف التي ترى أن أميركا تتبنى الإخوان والإخوان أنفسهم الذين يرون أن علاقتهم علاقة تحالف طويل الأمد باعتبارهم بديلا للأنظمة الاستبدادية.

مكابرة قيادات الإخوان ستفتح النار في المنطقة ولو بعد حين، ذلك أن تأخر الجماعة في التسوية مع النظام السياسي الجديد وارتفاع منسوب التطرف للكوادر والأتباع سيجعلها تنفصل عن جسد الجماعة وتتجه نحو العنف، لكنها لن تحصل على مظلومية الثمانينات أبدا؛ لأنها ليست البائع الوحيد في سوق الشعارات الدينية، فهناك الدخول السلفي للسوق الذي أحدث انقلابا هائلا ما زال غير ملتفت إليه على مستوى تطوير فكرة السلفية السياسية التي ستكون إذا ما حافظت على إيقاعها ولم تقع في فخ جر جماعة الإخوان لها لحلبة الصراع الآن؛ الفكرة التي ستزيح الإخوان من المشهد كما فعل الإخوان بالتيار القطبي وبحزب التحرير.. إلخ.

الأكيد أن ما يجري في مصر الآن هو إعادة فرز لفكرتين أساسيتين في المنطقة العربية بل العالم الإسلامي: جدوى فكرة الإسلام السياسي بمشروعه الانقلابي الشمولي، وعودة الأنظمة السياسية المتحالفة مع الإسلام التقليدي، وبقي أن يقال إن التلويح بالسيناريو الجزائري كما سأوضح لاحقا حماقة جديدة تشبه الاعتداء في الدعاء الذي طالب فيه إمام المصلين في رابعة العدوية بملء ميادين مصر كلها، وبالمناسبة لشيخنا الراحل بكر أبو زيد عضو هيئة كبار العلماء في السعودية والباحث المقدر في الأوساط العلمية رسالة لطيفة في أنواع الاعتداء في الدعاء، أعتقد لو كان على قيد الحياة لأضاف إليها «الأدعية السياسية» التي نسمعها الآن في كل مكان.

[email protected]