أكثر جمالا وأعز نفرا

TT

أبلغ ما صادفني هذا الأسبوع عن العنصرية الكامنة في نفوسنا، يتعلق بخبر نشر في صحيفة بريطانية عن امرأة ليبيرية مهاجرة تدير مقهى في لندن. هذه السيدة الليبيرية أفريقية، والأفارقة كما نعلم سود البشرة. والواحد منا لا ينظر إلى المرآة ويقول لنفسه: أنا أبيض إذن أنا موجود، أو أنا قمحي اللون أو أسوده. بل يقول: هذا هو وجهي وهذا هو أنا.

هذه المرأة لاحظت أن الزبائن يدخلون وهم لا يعرفون أن صاحبة المقهى أفريقية، ولكن ما إن تطل عليهم بوجهها الذي تعرفه جيدا حتى يتململ بعض الزبائن ويقول رب الأسرة لأسرته: أظن أننا في مكان غير مناسب.

فماذا فعلت حسناء ليبيريا: كتبت لافتة بخط كبير ووضعتها على باب المحل تقول: «أنا امرأة سوداء ولكني لا أعض الزبائن. ولو كانت البشرة السوداء تصيبك بالأرتيكاريا وفر على نفسك مشقة الدخول. ولكنك إن دخلت سوف تجد مكانا نظيفا يقدم لك وجبات شهية بأسعار معتدلة». أعجبتني واقعيتها، وأعجبني أنها لم تستسلم للتضاؤل أو الرثاء للنفس أو للغضب من طبائع البشر على اختلاف ثقافاتهم ودرجاتهم الاجتماعية.

ذكرني ذلك الخبر بلقائي أخيرا بطبيبة كلفت إكمال علاجي من الأورام السرطانية. حين جلست قبالتها بادرت أنا بطرح الأسئلة، بينما الأسلوب المعتاد هو أن يصمت المريض ويترك الفرصة للطبيب. ففاجأتني الدكتورة بأن سألتني إن كنت أزور المملكة المتحدة لأول مرة، فقلت لها إنني مقيمة بلندن منذ زمن، فقالت لي: الآن، أدركت ذلك، لأنك تتكلمين الإنجليزية بطلاقة.

الاعتراف بالحق فضيلة، وهنا يجب أن أعترف بأن ملاحظاتها استفزتني، لأنني تعلمت الإنجليزية في وطني وفي مدارس الحكومة، وسمعت عن إجادتي للغة الإنجليزية منذ وطئت قدماي أرض المملكة المتحدة من زمن طويل. وتجاوزت عن ملحوظة الطبيبة واستأنفت طرح أسئلتي عن تاريخ انتهاء جلسات العلاج لكي يتسنى لي أن أستأنف عملي. فرفعت الدكتورة حاجبيها دهشة وقالت: إذن، امرأة عاملة ذات مهنة وما زلت تعلمين. برافو. تضاعف إحساسي بأنها استفزتني مرة أخرى. فهي لم تكتف بافتراض أنني أجنبية «شاطرة» لأنني تعلمت لغة بلدها بكفاءة، بل أضافت إلى ذلك الافتراض افتراضا آخر وهو أن امرأة متقدمة في العمر من خلفية ثقافية مثل خلفيتي يمكن أن تكون مثلها صاحبة مهنة تحرص على ممارستها بحماس.

سجلت ملاحظاتها على أنها عنصرية دفينة غير مقصودة.

ربما نكون مبرمجين على الاستئناس بمن يماثلوننا في اللون والملامح واللغة، ومن ثم يصيبنا النظر إلى من يختلفون عنا بعدم الأمان..

منذ أيام، وصلتني رسالة من سيدة عربية هاجرت إلى كندا مع زوجها وطفليها. وفي اليوم المحدد لذهاب ابنها الكبير ابن السنوات الأربع إلى الحضانة، اصطحبته إلى هناك.. وعند بوابة المبنى، لمح طفلها صبيا أسود صحبته أمه إلى الحضانة أيضا. فإذا به يقول لأمه، صاحبة الرسالة المذكورة، إنه لا يريد الدخول إلى تلك الحضانة ما دام الطفل الأسود داخلا إليها. وأقسمت صاحبة الرسالة على أنها لم تعلم طفلها أن يفرق بين الناس، وكتبت تسألني إن كانت العنصرية تولد معنا أم أنها سلوك مكتسب. وبقيت الرسالة على جهاز الكومبيوتر عدة أيام إلى أن تذكرت المرأة الليبيرية والطبيبة الإنجليزية فأرسلت لها ردا.

ذكرتها بأن الإسلام كان ثورة فكرية، لأنه يعلمنا أن نطمئن إلى الآخر، ليس لأن ملامحه تشبه ملامحنا أو لأنه ينتمي إلى القبيلة أو الدولة التي ننتمي إليها، ولكن لأنه يتقبل منظومة فكرية قيمية تجمع ولا تفرق. والدليل على ذلك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطفى بلالا ومنحه مكانة عليا جعلتنا جميعا نذكره على مر الأزمنة.

ربما يكون الخوف من الآخر جزءا من البرمجة الجينية التي تؤهلنا للدفاع عن النفس إذا لاح الخطر. ولكن هناك جزء آخر من البرمجة الجينية التي تؤهلنا لاستئناس الحيوانات المفترسة بحيث نأمن شرها. وإذا كان سيد السيرك قادرا على استئناس الأسد، فكل منا قادر على النظر في وجه العنصرية، رافضا أن يقول لغيره: أنا أكثر منك جمالا أو أعز نفرا.

رمضان مبارك لي ولكم.