الخروج من الغرفة المظلمة

TT

الجيل الجديد لا يعرف شيئا عن تكنولوجيا التصوير الفوتوغرافي القديم. الأفلام كانت تطبع على شريط من السليلوز، ثم يتم تحميضها في غرفة مظلمة مضاءة إضاءة خفيفة بلمبة حمراء كانت تسمى «الأوضة الضلمة». الضوء كان الخطر الوحيد على الأفلام عند تحميضها وطبعها في المعامل. ومع تكنولوجيا التصوير الجديدة لم يعد الظلام ضروريا في أي مرحلة من مراحل التصوير. مع كل متغير تكنولوجي تتغير طريقة تفكير البشر، ومع تكنولوجيا الاتصالات الجديدة لم يعد الإظلام والإخفاء والتكتم بما يصاحبه من خدع ولؤم صالحا كأسلوب حياة. هذا عصر الوضوح والشفافية. الخطر الوحيد على أي فيلم الآن ليس الضوء بل الغرف المظلمة.

والتنظيمات السرية، عقيدية كانت أو آيديولوجية، هي وليدة ثقافة العصر الذي نشأت فيه. غير أن البشر لا يقطعون طريقهم داخل الزمن بثقافة ثابتة، بل هي تتغير وتتطور بتغير الثقافة السائدة، وهو ما تعجز عنه التنظيمات السرية بسبب ما تضفيه على نفسها من قداسة تفرض عليها جمودا معاكسا لثقافة العصر المتغيرة. لا بد من غرفة مظلمة تحمض وتطبع فيها أفلامها.

ومنذ اللحظة التي نشأت فيها جماعة الإخوان إلى اللحظة التي احترقت فيها أفلامها عندما أرغمت على الخروج إلى الضوء، كانت الثقافة السائدة هي الثقافة القومية. هناك من يبحث عن أمة عربية واحدة موحدة، أو خلافة، أو أممية اشتراكية تحكمها البروليتاريا، أو من يبحث عن سيادة لعرقه على الآخرين. غير أن التكنولوجيا الجديدة أنهت هذه الثقافة العامة، وجاءت بثقافة جديدة هي حرية الإنسان الفرد. هكذا نشأت ثقافة «الدولة الوطنية».

إن فكرة «ألمانيا فوق الجميع» هي نفسها فكرة أن نكون أساتذة للعالم.. كل الأفكار القومية تبدأ من فكرة «إننا الأفضل»، ثم تبدأ في الصدام مع الآخرين بسبب الإيمان بهذه الأفضلية على الرغم من كل الصيغ التي تبدو مقبولة والتي تبدي تواضعا كاذبا. هذه هي إحدى القواعد الأساسية عند الجماعة.. العناية بتربية الفرد ثم إعادة تربية الشعب، بعدها بالطبع يحتم الفكر القومي أن يكونوا أساتذة للعالم، وهي صيغة مهذبة وبلهاء أيضا لتعبير «فوق الجميع» الذي دمر ألمانيا والشعب الألماني في الحرب العالمية الثانية. ومن الطبيعي عندما تقول «أنا فوق الجميع» أنه لا بد أن يقاتلك الجميع لمنعك من أن تكون فوقهم. هذا هو بالضبط ما فعله المصريون في 30 يونيو (حزيران).

كثيرون يعتقدون أن التواضع فضيلة أخلاقية، وهو كذلك بالفعل، لكن المؤكد أنه ضرورة حياة. من المستحيل فهم ما يحدث حولك بغير التواضع. في غياب التواضع تغيب عنك الرؤية الصحيحة، فتحصّل علما لا ضرورة له، وتتكلم مع الجدران، وتظن أنها تسمعك، وتحلم بوظيفة لا وجود لها على الأرض، وتكذب على الناس أكاذيب يكشفونها قبل أن تنطق بها.

لا يوجد أساتذة لهذا العالم، يوجد فقط أستاذ لكل مادة على حدة. والأساتذة لا تنتجهم التنظيمات السرية أو العلنية، بل يصنعون أنفسهم بدافع من حبهم للناس والحياة ورغبتهم القوية في أن يكونوا مفيدين لهم. التواضع يجعلك قادرا على اكتشاف أنك - في حال أن تكون محظوظا - تصلح للعمل فراشا فقط في جامعة تعاني من أزمة في الفراشين.