إن من البيان لسحرا!

TT

العلاقة بين الدين والشعوب علاقة «خاصة» جدا يصعب قولبتها في نمطية ثابتة أو في شكل تقليدي معروف، ولكن المسألة تكمن في ما تعود عليه الناس. المزايدة الرخيصة الحاصلة الآن في مصر على شعب اختار «رفض» رئيس فاشل لبلادهم، دمر اقتصادها فزادت معدلات البطالة لتتخطى الـ13%، وليضاف أكثر من مليون ونصف المليون مصري إلى قائمة العاطلين عن العمل، وهبط الجنيه المصري ليخسر أكثر من 20% من قيمته، وتدهور الاحتياطي الصعب من العملة الأجنبية ليصل إلى مستويات خطيرة جدا. كل ذلك في عام واحد من حكم محمد مرسي «بالنيابة» عن حكم المرشد وجماعة الإخوان المسلمين. وليكون رد فعل «الإخوان المسلمين» ومؤيديهم أن هذه «حرب على الإسلام والمسلمين»، ولا أعتقد أن في الكون تضليل أكبر من هذا.

القاهرة بلد الألف مئذنة، دلالة على صلة شعبها الفطرية بدين الإسلام، فيها لا تقابل أحدا في بدايات النهار إلا ويقول لك: «صبحتك بأنوار النبي»، تتشاجر معه فيهدئ من روعك ويقول لك باسما: «صلي على النبي»، وتزوره في داره فيهلل بك مرحبا قائلا: «ده احنا زارنا النبي». اذهب إلى أي محل للعصائر ستجد لوحة واجهة المحل تقول: «وسقاهم ربهم شرابا طهورا»، على عربات الفول وسندوتشات الكبدة والكشري ستجد مكتوبا «كلوا من طيبات ما رزقناكم»، وعلى سيارات الأجرة وسيارات النقل ستجد كما مهولا من الآيات والعبارات الوجدانية الإيمانية، وعلى معظم المحلات ستجد الآية الكريمة «إنا فتحنا لك فتحا مبينا».

والأمثلة كثيرة ولا تنقطع عن تعلق الشعب المصري بفطرته ودينه واعتزازه بالأزهر الشريف كمرجعية واضحة ومحترمة وقديمة ومهمة ساهمت في نشر المفهوم السوي والوسطي والمعتدل والمتسامح الراسخ للدين الإسلامي الحنيف، ليس فقط في مصر، بل في العالم بأسره على مدى عقود طويلة جدا من الزمان. وبالتالي هذا المفهوم الراسخ في أذهان المصريين الذين أفرزوا علماء أجلاء عبر الأزمان وحفظوا القرآن ونشروه بقرائهم المتمكنين، يجد المصريون إهانة ما بعدها إهانة حينما يأتي طيف أو فصيل يفهمهم أنهم كانوا «على ضلالة» وأنهم على «خطأ عظيم» وأنهم «مشركون وجهلة» وأنهم بحاجة إلى من يعرف دين الله الحق لأن يحكمهم، وأنه لا يوجد غير جماعة الإخوان المسلمين، وحدهم القادرون على ذلك الأمر الهام. وطبعا هذه إهانة ليست بعدها إهانة.

والأدهى والأمرّ أن هذا يحدث والمصريون اليوم يخطون طريقهم نحو حكم متوافق وحكومة مؤهلة من أهل الكفاءات والخبرة لا من أهل الجماعة والعشيرة، وبدأوا في وضع دستور يلقى قبول «الجميع» وليس البعض ويصوت عليه من الشعب وليس عن طريق حفنة وفي نصف ليلة وبجلسة عجولة جدا.

المشاهد الكوميدية السوداء التي عاشتها مصر في عهد محمد مرسي وعشيرته.. رئيس وزرائه ينصح الشعب بقضاء الوقت كعائلة واحدة في غرفة واحدة ويجتمعون بملابسهم الداخلية للتعامل مع الطقس الحار وانقطاع الكهرباء، ويُسأل هشام قنديل رئيس الوزراء عن مشروع سد النهضة الإثيوبي (وهي مسألة تأتي في صميم تخصصه كوزير سابق للري)، فيقول: «لا أعرف». ورئيس للجمهورية أقسم على حماية الدستور فلم يحافظ على قسمه، وغير ذلك من المشاهد الحزينة والمرعبة التي فرقت المجتمع المصري باسم الدين، وعين عضوا في جماعة إرهابية تسببت في مذبحة الأقصر الشهيرة بحق السياح محافظا للأقصر نفسها! هذا المناخ المسموم كله مزق البلاد اجتماعيا وشلها اقتصاديا ودمر معنويات شعبها، وتحركت الملايين في الميادين والشوارع تنادي بإسقاط النظام، وتدخل الجيش مستجيبا تماما كما حدث في 25 يناير بحق نظام مبارك، والأدهى والأمرّ أن يخرج بيان يندد بدعم الجيش المصري ويعتبر أن دعم مصر هو دعم ضد الشرعية وضد الدين. المشهد واضح جدا ولا يمكن تكذيبه، مصر تسير بخطى واثقة نحو الاستقرار وتستعيد هويتها وشكلها وكيانها الذي كاد أن يسرق منها، هذا هو ما يستحق أن يدعم، وغيره هو لعب بالكلمات والعواطف.

قال لي أحد الأصدقاء المصريين إنه سيقترح لوحة فيها قول مأثور لتعلق على مقر جماعة الإخوان المسلمين في المقطم «مِن أعمالكم سُلِّط عليكم».