رجل تنويري تقدمي ولكن..

TT

حضرت المرأة في ثورات «الربيع العربي» في مصر وتونس وليبيا واليمن، ثم وجدت نفسها أسوة بالشباب الذين كانوا وقود هذه الثورات، صفر اليدين مما صار تاليا من تسويات واستحقاقات. وفوق ذلك صار عليها مع صعود الإسلام السياسي في بعض هذه الدول أن تحافظ على مكتسباتها التي ظفرت بها في العهود السابقة، خشية التراجع عنها، خاصة في الحالة التونسية، التي تمثل ذروة مكتسبات المرأة العربية. ولولا أن توكل كرمان رددت مؤخرا الكلام الذي أطلقته في أواخر عام 2011 عن رغبتها في الترشح للانتخابات الرئاسية اليمنية، لقلت بأن النساء فهمن أخيرا أصول اللعبة. وإن كان تصريح كرمان الطريف أعادنا على أي حال إلى الحكاية الطريفة حين نافست السيدة سميحة خليل في انتخابات عام 1996 ياسر عرفات، رحمهما الله.

لا شك أن التاريخ يعشق تكرار نفسه، فقد شاركت المرأة العربية في الخطوط الخلفية وجبهات القتال الأمامية خلال حروب التحرير وطرد المستعمر. وبعد الاستقلال، وجدت نفسها كالمرأة الجزائرية مثلا تعود إلى البيت خالية الوفاض، لتبدأ من نقطة الصفر الموسومة بالدر المصون والجوهر المكنون. ذلك طبعا بخلاف المرأة السعودية التي لم تطرد مستعمرا، فكانت جوهرة مكنونة دون مجهود حربي.

قد تكون خيبة الأمل قاسما مشتركا في خبرة المرأة العربية مع الرجل، على تنوع هذه الخبرة واختلاف سياقاتها. فلا توجد امرأة عربية عرفها النضال وعرفته أكثر من المرأة الفلسطينية، وها هي تعاني التهميش، وتصارع الأسوأ، فجرائم الشرف التي تراق فيها دماء النساء على عتبات الظن والشبهة، تقع بتكرار في الضفة والقطاع.

السؤال: هل هناك من فارق جوهري بين الرجل الأصولي والتقدمي أم لا فضيلة لأحد على أحد؟

لقد لاحظت نساء العرب أن وجودهن وتمثيلهن في الأحزاب القومية واليسارية لم يكن في حال أفضل من وجودهن وتمثيلهن في الأحزاب والتنظيمات ذات المرجعية الدينية.

وعلى الصعيد الثقافي، نال الرجل التنويري هجاء شديدا من المثقفات العربيات أسوة بما ناله الرجل الأصولي إن لم يكن أكثر. رأينا ذلك لدى هيفاء بيطار وسحر خليفة وأروى صالح وكوليت خوري وغيرهن. ثم لحقت السعوديات بقطار الهجاء، ولا بد لهن من اللحاق، وكانت ممثلتهن القاصة المميزة ليلى الأحيدب في روايتها «عيون الثعالب». وتركز هجاء المثقفات على التناقض بين قيم التحرر والحداثة التي يبشر بها الرجل التقدمي بخصوص المرأة، وبين نظرته البدائية وسلوكه الفظ في تحجيمها واستغلالها.

وقد انطلقت أغلبية هؤلاء المثقفات من تجارب شخصية مريرة جمعتهن بمثقفين في عالم الصحافة والأدب أو العمل الحزبي، تقاطعت فيها العاطفة مع العمل، والزمالة مع الصداقة، وانتهت بهن إلى الشعور بالصدمة والخذلان الذي وصل ذروته المميتة في حالة اليسارية أروى صالح التي أنهت حياتها منتحرة، بعد أن سجلت كفرها بادعاءات هذا الرجل التنويرية.

لكني أخشى أن حرارة الهجاء تمنع صاحباتها من أي رؤية تحليلية إنسانية. لنتذكر أن شيخ قبيلة يقبع في داخل المثقف ويصارع عوامل التنشئة الاجتماعية المحفورة في أعماقه كالأخاديد. فكل مصادر التنشئة التي كانت تضخ بعنفوانها خلال سنوات عمره المبكر، كتقاليد الأسرة ومنهاج المدرسة وخطب المسجد وصيحات الإعلام الرسمي، نهلت من معين أحادي منغلق، خالقة فيما بعد الرجل «التنويري» المتدثر بالعشائري والطائفي والفئوي والجنسوي!

هذه محاولة أولية للفهم، وليست تبريرا لواقع كلفته باهظة، فإذا أخفق المثقف نفسه في الخروج من قيد الماضوي واللاإنساني في النظر إلى المرأة والتعامل معها، فكيف هو الحال مع غيره؟ فكيف سيتغير المجتمع؟

التقدمي ينادي بما قرأ عنه وشاهده وأعجب به، وبما لمسه وقدره من قيم ومبادئ خارج أسر ثقافته ومعايبها، لكنه في آخر المطاف قد يخفق في اختباراته مع المرأة. إحسان عبد القدوس لم يكن كاذبا ولا منافقا حين اعتمد استقلالية المرأة ثيمة روائية دائمة وهو الرجل التقليدي معها في الحياة الواقعية. الإعلامي وجدي الحكيم قال عن عبد الحليم حافظ إنه كان تقدميا في أغانيه فقط وإنه كان يقسم شقته بين صالون رجالي وحرملك.

الخريطة المعرفية التي تتشكل في عقل التقدمي بفعل التنشئة هي المحرك الحقيقي لسلوكه، وليس القيم الحداثية التي يؤمن بها صادقا، لكنه قد يفشل في تمثلها واستدماجها في ذاته بفعل «سطوة الأب» في لا شعوره. وبتغيير بسيط لعنوان قصة إحسان عبد القدوس التي تحولت إلى فيلم تلفزيوني يصبح عنوان هذا الرجل «أنا لا أكذب ولكني لم استدمج».

أما حالة الكذب والنفاق النموذجي فنجدها لدى المنضوين تحت لواء القاعدة، والذين يؤمنون إيمانا صادقا بإقصاء المرأة وعزلها في فضاء بيتها، والوقوف ضد مشاركتها في عجلة العمل والإنتاج، في الوقت الذي يؤصلون فيه لإخراجها منه للمشاركة في الأنشطة الجهادية من دون اعتبار لمحاذيرهم في الخلوة والاختلاط، والممتدة من جمع المال إلى إيواء المطاردين أمنيا وصولا إلى النفرة إلى أرض الجهاد.