«فوبيا» إزاء الجيش

TT

من أكثر المواضيع إثارة للجدل الساخن منذ قرار الجيش المصري عزل الدكتور محمد مرسي عن الرئاسة هو مسألة تدخل الجيش في حد ذاتها. فهذه المسألة قسمت المواقف حولها بين رافض بشكل قطعي ومرحب ومتفهم ومطالب بالاستنجاد بالجيش وذلك بعد تراكم إخفاقات النخب الإسلامية الحاكمة في بلدان الثورات العربية.

والملاحظ أن البعد الرمزي في عملية الإقالة هو الذي فجر حالات القلق والرفض والخوف الشديدة. ذلك أن موضوع علاقة الجيش بالحياة السياسية تشوبه حساسية قوية في كل بلدان العالم، ناهيك عن دول حديثة العهد بالثورة وحديثة التاريخ بالديمقراطية والحريات.

وفي الحقيقة يبدو توجس أعداد من المصريين مفهوما إلى حد كبير باعتبار أن مؤسسة الجيش كانت طرفا في لعبة الحكم في مصر الحديثة، إضافة إلى نقطة مفصلية ومهمة تتمثل في تاريخ علاقة جماعة الإخوان المسلمين والجيش المصري الذي لا يخلو إلى جانب مراحل التواصل من التوترات والصدمات، مما زاد من ارتباك «الإخوان» وتابعيهم بسبب عزل مرسي بعد أن انتهت المهلة التي حددها الجيش للتوافق.

هكذا نفهم حالة الارتباك الشديدة والرفض القطعي الراديكالي لموقف الجيش إذ المشكلة بالنسبة إلى الرافضين ليس الموقف، بل صاحب الموقف الذي يرفضون دخوله إلى الحياة السياسية. بمعنى أن «الإخوان» ومن يقاسمونهم الموقف يعانون من حالة فوبيا إزاء الجيش كمؤسسة مشاركة في الحكم منذ استقلال مصر. إضافة إلى تغلغل صورة تاريخية تمجيدية للجيش في التمثلات الاجتماعية للمصريين.

في هذا السياق نفسر توصيف البعض لما حصل في مصر بأنه انقلاب وأن الجيش قد وضع يده على الحكم وبداية العودة إلى الوراء أي إلى ما قبل الثورة. فهو توصيف يستند إلى خلفية كلها توجس وخشية وريبة من مؤسسة الجيش.

والغريب أن هذا التوجس قد انتقل إلى بعض النخب التونسية خصوصا الحاكمة منها رغم اختلاف المثالين المصري والتونسي. بل إنه في تونس بدأ منذ الأشهر الأولى من الثورة نوع من التوجس الاستباقي نحو مؤسسة الجيش على إثر التقدير الكبير الذي خص به الشعب التونسي مؤسسة الجيش التونسي. كما سعت بعض الأطراف بعد انتخابات 23 أكتوبر (تشرين الأول) 2011 إلى إبعاد شخصيات تردد اسمها وحضورها وتأثيرها عن المشهد الاتصالي خصوصا أمام تدهور صور الوجوه الحاكمة والمعارضة والمهيمنة على المشهد الإعلامي السياسي.

ولكن يبدو أن التوجس التونسي الاستباقي ممكن الفهم إذا وضعناه في سياقه وفيما هو مشترك من تصورات ومواقف وأفكار بين «إخوان مصر» و«نهضة تونس» بحكم أن الرافد الإخواني أحد أهم روافد حركة النهضة التونسية.

من جهة أخرى لعله يمكن إدراج استقالة قائد أركان جيش البر والبحر والجو السيد رشيد عمار أخيرا في تونس وإعلانه هذه الاستقالة في برنامج تلفزيوني تضمن تصريحاته المباشرة والمستنبطة، في سياق توتر العلاقة بين الترويكا والجيش في تونس ومحاولة الترويكا التصدي لأي إمكانية لتدخل الجيش قبل أن تبدأ رغم أن الجيش في تونس مؤسسة محايدة تاريخيا ولم تشارك في الحكم منذ استقلال الدولة التونسية.

غير أن التاريخ الناصع للجيش التونسي لم يشفع له بدليل محاولات الترويكا عزل المؤسسة من حيث مدها بالمعلومات وهو استنتاج نسوقه بحذر، باعتبار أنه يستند إلى آخر تصريح لقائد أركان الجيش التونسي السابق. كما أن الضغوطات التي عرفها الرجل ولمح إليها في أول ظهور تلفزيوني له من الواضح أنها نتاج ما حققه من تقدير شعبي عندما أنقذ البلاد من مأزق الفوضى وخرج إلى المتظاهرين في القصبة بتونس بعد أيام من الثورة التونسية، قائلا إن الجيش هو الضامن للثورة، داعيا إلى عدم إضاعة الثورة التي وصفها بالمجيدة.

لذلك ومن منطلق بعض المؤشرات والتصريحات، فإن العقل المتوجس من الجيش ورموزه قد يكون قد رأى أن كاريزما شخصية بارزة من مؤسسة الجيش وجاذبيتها الشعبية ليستا في صالح نخب ما فتئت تتآكل مشروعيتها حتى بين مريديها.

نعتقد أن التوجس سواء أكان في الحالة التونسية أو المصرية غير مبرر وهو توجس يستند إلى مبررات تاريخية وماضوية لا واقعية وآنية ومستوعبة بعمق لطبيعة اللحظة السياسية والتغييرات الحاصلة اليوم في مفهوم الحكم والمواطنة والقيم المدنية.

فالجيش المصري لم يتدخل في الحياة السياسية حبا في التدخل، بل إن تعطل التحول الديمقراطي وتعمق فشل النخب الحاكمة قد استدعيا هذا التدخل الحامل لأهداف محددة ومهمة مؤقتة.

فالسؤال هو: لماذا تدخل الجيش المصري وقام بعزل الرئيس؟ وعندما نفهم الأسباب يمكننا أن نحدد نوعية التدخل ومقاصده وزمنيته. والسؤال يجب أن يطرح بعيدا عن التوجس، لأن أي تفكير محكوم بالتوجس والفوبيا لن يكون قادرا على طرح الأسئلة الدقيقة الموضوعية. وتحتاج الذاكرة الإخوانية التي تستبطن في جزء منها ذكريات سلبية عن علاقة «الضباط» بجماعة الإخوان إلى استدعاء أحداث ومعلومات مهمة تمكننا من قراءة الأوضاع وتطوراتها ببصيرة مختلفة. ونقصد بهذه الأحداث دور المؤسسة العسكرية المصرية تجاه الثورة وموقفها الإيجابي منها ووقوفها إلى جانب الشعب المصري وهو ما يؤكده بيان الجيش المصري رقم 1 في شهر فبراير (شباط) 2011 عندما تعهد بحماية تطلعات الشعب المصري وهو موقف جلب له التقدير داخل مصر وفي العالم.

ومن جهة أخرى فقد أوفى الجيش المصري بتعهداته وسلم الحكم وفازت في الانتخابات الرئاسية جماعة الإخوان نفسها رغم أن «الإخوان» شككوا في حياد الجيش واعتقدوا أنه سيدعم أحمد شفيق ضدهم.

كل هذه الوقائع لم ينظر إليها «الإخوان» ولم يفهموا أن توجسهم التاريخي من مؤسسة الجيش لا معنى له لأن الحاضر والمستقبل هو للحكم المدني. أما التدخل الظرفي للجيش لتصحيح الأوضاع، فإنه ضرورة تقررها النخب الحاكمة من خلال أدائها ومدى قدرتها على إشباع توقعات شعوب استأمنتها على ثورتها من أجل الخبز والكرامة والحياة.