الحياة السياسية الطبيعية

TT

لا أزال، شأن الملايين من العرب، أنظر إلى ما يحدث في مصر بإشفاق، وما زلت أترقب في أمل وثقة تامة معا في قدرة الشعب المصري العظيم على مجاوزة المحنة التي يوجد فيها - ولست أحسب أن هذه الثقة تقوم على أساس غير سليم، ولا أنها ترجع إلى الحلم العسير التحقق. أقول هذا في الوقت الذي أومن فيه بالوطنية قيمة عليا، وأقدر أنها القيمة العليا التي يحق لها أن تحكم الحياة السياسية لشعب من الشعوب ولأمة من الأمم، وأنها البوصلة التي يكون لها أن توجه الدولة من الدول. وترجمة كلامي، في معرض حديثي هذا، أنني أعتبر ما يحدث في أرض الكنانة شأنا مصريا خالصا، ومن ثم فإنني أخجل أن أقف موقف الواعظ الناصح مثلما كنت دوما شديد التشكك كثير الانتقاد لدعاوى «القومية العربية» تلك التي جرت على الوطن العربي الكثير من الفتن والحروب: كذلك كان التدخل المباشر (العسكري) في بلد عربي لم ينهض بعد من كبوته ولا خرج من حال الفتنة والتجزئة. أكره هذا مثلما أكره أن تقوم في البلد الواحد طوائف وتيارات تقلل من شأن الشعور الوطني بدعوى الانتماء إلى مجموعة عرقية أو ديانة تدين بها شعوب وأقوام ومذاهب من شتى الأصناف، فلا خير يرجى من شخص أو مذهب يقلل من شأن وطنه فهو لا يتخيله إلا «إمارة» أو جزءا من مجموع أكبر وأجدر بالموت دونه. بيد أنني، صدورا عن حس عروبي تلقائي ووعيا بالمكانة الكبرى لمصر في وعينا العربي الإسلامي وفي نسيجنا الثقافي - فضلا عن موقعها الاستراتيجي - أعتبر أن الشأن المصري يعنينا جميعا، عربا أولا وقبل كل شيء، ويعنينا مسلمين من حيث إن ما أريد له أن يكون قد جعل قضية العلاقة بين العقيدة الدينية وبين السياسة، العام المشترك في بؤرة الأحداث ضدا على معنى الدولة الحديثة، بل ضدا على جوهر الشريعة الإسلامية التي ترى في السياسة ومتعلقاتها قضية مصلحية يجدر بالمسلمين أن يجعلوا الدين الإسلامي الحنيف في منأى عن تسخيره في خدمة أغراضها الدنيوية المحض تحت ستار الدين.

الرأي عندي (على نحو ما عبرت عن ذلك في الأسبوع الماضي) أن ما حدث في مصر ليس من قبيل الانقلاب في شيء، وأن من قصور النظر أن يعتبر كذلك. ما حدث مواكبة من الجيش في مصر ومباركة له وحماية لانتفاض شعب، والأمل أن تذهب المؤسسة العسكرية في الوفاء بما التزمت به من احترام الدلالة الحق للدولة الحديثة، دولة القانون، أي الدولة التي يكون فيها للجيش دور خطير يقوم في حماية البلد وفي الابتعاد عن الشأن العام وإدارته. ولست أجد لهذا الالتزام من المؤسسة العسكرية في مصر معنى آخر سوى التسليم بضرورة ميلاد الدولة المدنية الحديثة في مصر بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني) وبعد اغتناء المؤسسة بالتجربة العسيرة التي عاشها البلد طيلة سنة ونيف، فكادت تسلمها إلى سرداب طويل مظلم يعلم الله وحده متى يكون في مقدورها أن تخرج منه. لنقل في عبارة أخرى، إن مصر تقف على مشارف الدولة الحديثة على الحقيقة، دولة القانون، فهي في سبيلها (متى حكمنا بظاهر ما نرى) في أول الدرب الذي يفضي إلى تشييد أسس الحياة السياسية السليمة أو الطبيعية. فما شروط البناء السليم؟ وما العوائق التي يتعين على مصر (مجتمعا سياسيا، ومجتمعا مدنيا، وبنيانا وطنيا) مجاوزتها والارتفاع فوقها؟

الشرط الأول، بل التمهيد الضروري لتشييد صرح الدولة المصرية الجديدة، دولة القانون، هو السعي إلى تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة بتوسط لجنة حكماء تجمع بين المصداقية الشعبية وبين اتسام أعضائها بالقدرة على الانخراط في حوار جدي لا يبغي إقصاء جهة أو تيار، ويجعل نصب عينيه الحرص على التمثيلية الشاملة للشعب المصري. تختلق الصورة كلية بين ميدان التحرير وميدان رابعة العدوية، ولا بأس بذلك في العمق، فتلك من سمات الوجود السياسي السليم ما دام الأمر لا يخرج عن الدائرة التي ترسمها القوانين الإنسانية، وما دام الأمر لا يبلغ تعريض أمن وممتلكات المواطنين للخطر. لا شك أن «رابعة العدوية» تنذر بكارثة صحية فظيعة، على السلطة التنفيذية الشرعية أن تتسم بأقصى درجات الحكمة لتجنيب البلاد شرورها وحماية أرواح المواطنين من نتائجها المباشرة - وعلى نحو ما يرى العالم فهي تتصل بقضية الأمن اتصالا مباشرا، وهي لا تحتمل الإرجاء في صيف القاهرة القائظ والناس صائمون.

الشرط الثاني هو إشاعة الوعي بمسلمة بسيطة بيد أنها - في بلد يخرج من ستين سنة من الحكم العسكري - تستوجب إعدادا بيداغوجيا كاملا، عسيرا في محيط أخذت فيه نسبة الأمية تبلغ معدلات مهولة، والمسلمة هي أن في الحياة السياسية الاجتماعية السليمة مكونين اثنين كبيرين: المجتمع السياسي، والمجتمع المدني، ولا ينهض المجتمع، ولا الحياة السياسية - الاجتماعية تستقر، إلا بوجود الوعي الكامل بالفروق التي تقوم بين كل منهما، وكذا بالدور الذي يرجع إلى كل منهما، ومن ثم التسليم بأن الكثير من الفوضى والشرور يرجع إلى الخلط بين الدورين أو التقليل من خطره وأهميته. ولمصر تقاليد عريقة، عميقة ومتمكنة من المجتمع، في تنظيم المجتمع المدني وتشرب أهميته ودوره. غير أن الشأن، فيما يبدو، ليس كذلك بالنسبة لحياة الأحزاب السياسية وتنظيمها في مصر، وإن عملا جبارا ينتظر مكونات المجتمع السياسي برمتها: ذلك أن عقودا عديدة من «فلسفة» الحزب الواحد الذي يمتلك زمام السلطتين التنفيذية والتشريعية، مع إقصاء تام للغير المخالف، بل تخوينه والدفع به إلى منطقة الظل والكم المهمل، قد أساءت إلى الحياة السياسية برمتها وخلقت أجواء من الشك وفقدان الثقة. لا بل إن فلسفة الحزب الواحد هي التي خلقت الربة المناسبة التي فرخت فيها حركات التطرف، ومن ثم الإرهاب، في مسيرة منطقية من الناحية السيكولوجية - الاجتماعية. لنقل في عبارة واحدة إن المجتمع المصري في حاجة إلى المصالحة مع السياسة وإلى استرجاع الثقة في «السياسي».

لا حياة سياسية طبيعية في مجتمع قوي ومنسجم وفي دولة تسعى إلى أن تكون حقا دولة قانون دون مجتمع سياسي سليم واع بدوره. هذا هو الرهان، وهو صعب، غير أنه تحقيقه ليس بالمستحيل.