شهوة لجم الأكثرية

TT

قبل أن نستفيق من كابوس جز الرؤوس وأكل الأكباد والقلوب في سوريا، طالعتنا مشاهد رمي البشر من فوق السطوح الآتية من مصر. ولم تمض سوى أيام حتى فجعنا بما هو أدهى وأبشع من كل ما سبق، ألا وهو الانتقام بقطع العضو التناسلي، عمدا ومع سبق الإصرار والترصد، لشاب لبناني كل جريمته أنه تزوج من فتاة أحبها، ولم ترض به عائلتها. وكأنما بات هناك تنافس، بين العرب، في التفنن بتلاوين الإجرام وابتكار وسائل الانتقام.

الزواج المختلط في لبنان، ليس محمودا ومشجعا من الغالبية الساحقة، لكنه موجود، وله أنصاره ومن يدافع عنه، ويتظاهر لأجله، ويطالب بقران مدني لتسهيله وتذليل العقبات دونه. الزيجات المختلطة تحدث مئات المرات في العام الواحد، في لبنان. تتم برضى الأطراف أو قد يستتبعها، غضب عائلي أو اعتراض، لكن ما رأيناه، هذا المرة، من وحشية حاقدة، تجاوز المخيلة، وترك المجتمع اللبناني بأسره، تحت وطأة صدمة عارمة. ربما لهذا بدا أن النكات والتعليقات الساخرة أكثر من التحليلات الجدية أو التعليقات المستنكرة. فالوعي الجماعي بقي محتارا وعاجزا عن فهم رد الفعل الإجرامي، ورمزيته المخيفة والمزلزلة. واحتفظ السياسيون، بصمت مطبق ومريب بالفعل، رغم أن مسؤوليتهم في التحريض الطائفي والمذهبي، كبيرة، وتورطهم في الدفع إلى هكذا سلوك، ثابت بالتسجيلات التلفزيونية اليومية.

ثمة من يحلو له القول: إن الحادثة، بتوقيتها ونوعيتها، تعكس الخوف المتفاقم للأقليات في محيط تنساب فيه الدماء شلالات وأنهارا. ويرى أصحاب هذا الرأي، أن ما صدر عن العائلة المنتقمة، كان يمكن أن تقوم به أي عائلة، تحكمها العصبية في طائفة أخرى، بات إحساسها بأقليتها يؤرقها حد الجنون. ويذهب التحليل إلى اعتبار بتر عضو رجل بمثابة تعويض عن رغبة دفينة، من قبل من تقلقه أقليته، في رؤية أي أكثرية طاغية في تعدادها، مخصية، فاقدة قدرتها على التناسل والتكاثر. بحيث إن شقيق العروس اللحام، ما كان ليمارس على زوج شقيقته، مهما كانت ملته، ما يفعله مع أي نعجة لو كانت الظروف مختلفة، والمحيط العام يدعو للطمأنينة والوئام بين مواطني البلد الواحد.

بشاعة ما حدث ورمزيته، ستشكلان رادعا قويا لكل من ستسول له نفسه مستقبلا الوقوع في حب فتاة من دين آخر. فالبغضاء، كما أوحت به هذه الحادثة المقززة، هي أقرب إلى القبول والتفهم من الحب. خاصة أن جريمة بيصور اجتمعت لها كل عاهات المجتمع. فقد راكمت العصبية والقبلية والعنف الذكوري مع اضطهاد المرأة، والسلطوية المستبدة والخوف الأقلوي، إلى جانب الطائفية التي وصلت إلى الأعضاء التناسلية، ليتجلى البشري اللبناني في أبشع صوره.

لكن وقبل أن نبتلع جريمة البتر المروعة أو نستوعب أبعادها وأسبابها، أعلنت السلطات اللبنانية أن حادثة اغتيال السياسي السوري محمد ضرار جمو، الذي قتل بوحشية بينما كان مع ابنته، في منطقة الصرفند في جنوب لبنان، لا دوافع سياسية لها. وبعد أن تنافس المحللون في ربط حادثة القتل بخرق أمني فادح لحركة أمل وحزب الله، في عقر دارهما، وبهجوم نوعي قامت به عصابات إسلامية متطرفة، على سوري محسوب على النظام، تبين أن عملية القتل، بفظاعتها تمت ـ حسبما قيل ـ بتحريض من زوجته وعلى يد شقيقه وابن شقيقتها. لتصبح بذلك الجريمة العائلية امتدادا للوحشية السياسية المعجونة بالحقد الديني والطائفي، لا بل أسوأ منها وأخطر.

كل ما يحدث ما كان ليثير الهلع، لولا أنه يتم في وقت واحد، وفي بقعة جغرافية متقاربة ومتشابهة في عصبياتها وترهاتها وضيق أفقها، تهتز أرضها وتتفجر تحت أرجل قاطنيها.

بدأت الثورات العربية بإحراق البوعزيزي نفسه في تونس. ولمن يذكر جيدا، فقد توالت حينها حالات لشبان يضرمون النار بأجسادهم احتجاجا وغضبا في بلدان عربية مختلفة. الآن، وبعد ما يقارب، ثلاث سنوات من تلك الأحداث، التي هزت الوجدان وحركت الضمائر، وعبرت عن قرارات فردية لمواطنين يائسين ومتمردين على بؤسهم، ها هي شعوب بأكملها تتقمص حالة البوعزيزي ورفاقه. لم يعد الانتحار قرارا معزولا لأشخاص أفقرهم نظام مستبد حتى دفعهم إلى الموت واقفين. ففي وقت قصير جدا وقياسي، صار الانتقام الجماعي الذاتي، وسيلتنا المفضلة للخلاص. انسداد الأفق، والدوران في دائرة مغلقة، يبعث على الجنون. وما نعايشه ليس إلا ضربا من فنونه.