عشماوي في المتحف

TT

في حين يحرص السياح على زيارة «اللوفر» ومعرض الفنان شاغال في متحف قصر اللوكسمبور بباريس، يمتد صف من الزوار، تحت شمس حارة، أمام متحف الرسائل والمخطوطات لمشاهدة وثائق تعرض للمرة الأولى عن محاكمة هنري ديزيريه لاندرو وإعدامه.

لم يكن مسيو لاندرو فنانا ولا أديبا أو سياسيا من الذين يحتفظ المتحف بمخطوطاتهم ورسائلهم في صالاته ومحفوظاته. بل أحد أشهر القتلة في فرنسا القرن العشرين. وقد حوكم وأعدم بعد إدانته بقتل عشر نساء ورجل واحد. وجاء في تقارير النيابة العامة أنه كان يستدرج الأرامل الثريات ويغريهن بوعود الزواج ثم يقتلهن. كان يسرق النقود والمجوهرات والأثاث وحتى الثياب، ويقطع الجثث ويحرق أجزاء منها في فرن بيته ويلقي الباقي في أماكن متفرقة.

إن «البطل الحقيقي» لهذا المعرض الفريد ليس لاندرو بل إناتول ديبلر، الجلاد المكلف تنفيذ أحكام الإعدام بالمقصلة. أي «عشماوي» الفرنسي حسب التسمية التي تعلمناها من الأفلام المصرية. فقد كان ديبلر يدون في مفكرته تفاصيل ما يقوم به من عمل. وهو قد وصف لحظات إعدام لاندرو في سجن فرساي، في الساعة السادسة وعشر دقائق من صباح الخامس والعشرين من فبراير (شباط) 1922 وسجل آخر عبارة تفوه بها المجرم: «سآخذ سري معي. إنه متاعي الصغير». ولم يغب على الجلاد أن يلاحظ أن «الطقس كان صحوا».

في المعرض الكثير من قصاصات الصحف ووثائق التحقيق وصور للضحايا وهن بالقبعات الكبيرة المنشاة والفساتين المزينة بالدانتيل. لويز وجوزفين وأندريه وآن ماري وماري تيريز وآن ولين وكولومب وأنجيليك وجان ماري. وهناك صورة كبيرة للمتهم الخمسيني ذي المظهر الأنيق واللحية الشعثاء، يقف في قاعة المحكمة رافضا الاعتراف بجرائمه، يلوح بسبابته ويدافع عن نفسه قائلا للقاضي: «أنا يا سيدي محتال ولست قاتلا». وقد استدعيت للشهادة المغنية فرناند سيغريه، عشيقة المتهم التي نجت من الموت رغم أنه حــاول تسميمها مرتين. وكانت تحبه ودافعت عنه حتى النهاية. وبعد إعدامه سافرت لتعمل معلمة في لبنـــان، قبل أن تعود إلى فرنســـا وتنتحر.

اشترك الرجلان، أي لاندرو وعشماوي، في كره الأضواء. لكن هذه القضية وما رافقها من تقارير كثيرة في الصحافة جعلتهما شهيرين رغما عنهما. لقد قطع ديبلر عشرات الرؤوس، وراء الجدران العالية للسجون خلال أربعين عاما، دون أن يسمع به أحد. ثم جاء قاتل النساء ودفع به إلى العلن، بل وخلد اسمه وأدخله متحف المخطوطات. إن مفكرته تقبع، تحت سقف واحد، مع دفتر مذكرات الجنرال ديغول وكتابات مالرو وقصائد أراغون ورسوم كوكتو.

سمح لعائلة لاندرو بأخذه ودفنه في مكان ما زال مجهولا. أما الفرن الذي أحرق فيه نساءه، فقد بيع بالمزاد العلني في باحة محكمة الجنايات ودفع فيه صاحب معرض 4200 فرنك قديم. ولا أحد يعرف، اليوم، مصير الفرن.