لماذا أفلست ديترويت؟

TT

أعلنت مدينة ديترويت إفلاسها. إنه الأهم في تاريخ الولايات المتحدة. فالناس اعتادت أن الأفراد يفلسون والشركات تفلس، لكن كيف تفلس مدينة في حجم لبنان؟ منذ أن مررت في ديترويت العام 1974 وأنا أسمع أنها على شفير الإفلاس. ذهبت إليها مضطرا، فلا أحد يختار زيارتها. كانت سمعتها أنها مدينة يتهاوى فيها الاقتصاد ولا يزدهر سوى الجريمة والفقر والفساد. لكن كان علي المرور بها إكراما لذكرى جدي الذي طالما تمنى علي أن أزور ذات يوم بلدة فلنت القريبة، حيث عمل. اشتغل جدي وأشقاؤه في العمل الوحيد الذي يجيدونه: مصانع تجميع السيارات. هو، كان موقعه على خط العجلات في شركة «بويك».

عندما ذهبت إلى فلنت، ذلك العام، كان أحد أشقائه لا يزال على قيد الحياة، وأيضا شقيقته، إضافة إلى رهط من الأبناء، بينهم ابن شقيقته، الطبيب الذي ربطتني به أحب العرى وأطيب المودات.

بسبب أحاديث جدي عن مصنع «بويك» نشأت تلك العلاقة الطفولية مع السيارات ومع ديترويت، التي طالما تردد ذكرها في ذكرياته. وعندما وصلت إليها بعد 15 عاما على وفاته، كانت قد فقدت مكانتها الصناعية، واستسلمت أميركا للغزو الياباني الذي يشبه قفيرا في الإنتاج وفي الدقة.

والخطأ الذي ارتكبته ديترويت منذ أن أسسها الفرنسيون في القرن الثامن عشر، أنها عاشت على اقتصاد واحد وصناعة واحدة ولم تنوع. فلما برعت الدولتان المهزومتان في الحرب، ألمانيا واليابان، في إنتاج السيارات المتقدمة، وجدت ديترويت نفسها تتعثر وتتخبط.

أول نصيحة في الاستثمار: نوع! وزع ما عندك حتى لا تقع بوقوع نوع واحد. ديترويت لم تفعل. ظلت مدينة السيارات كما ظلت هوليوود مدينة الأفلام. أما الشاطرة نيويورك فهي مدينة المسرح والنشر وأسواق المال والليل والنهار.

كانت لندن عندما عرفتها أول مرة العام 1972 مدينة ليس فيها مطعم مفتوح يوم الأحد، ومهزومة أمام حيوية باريس. الآن يعمل فيها نحو نصف مليون فرنسي، وباريس تحاول عبثا منافستها.

المدن التي لا تجدد نفسها وتغير عصرها، تذوب. لم يكن هناك أعظم من روما وأثينا وكلتاهما اليوم خارج صف المدن الكبرى. افتقرت ديترويت إلى محافظ مثل رودي جيلياني، أو إلى حاكم مثل محمد بن راشد أو مهاتير محمد أو لي كوان يو.

هؤلاء جعلوا المدن في حجم الدول، عددا واقتصادا وتنوعا. سوف تنتشر المآسي في ديترويت وتزداد الجريمة وتقف وحدها بين مدن أميركا في الإفلاس. ولن يعيدها إلى السواء إلا حاكم له رؤية.