إخفاق الإخوان المسلمين في حكم مصر

TT

ليس جديدا القول إن جماعة الإخوان المسلمين هي حركة أممية وحركة آيديولوجية، بل مغرقة في الآيديولوجيا تحاكي في ذلك الكثير من الحركات الآيديولوجية العالمية بل وتبنت في ذلك جل ممارساتها التنظيمية وطرق بنائها الآيديولوجي وتحديدا الحركة الشيوعية العالمية في مراحلها الأولى. إلا أن الأخيرة، وتحديدا في دول أوروبا الغربية، قد مرت بتحولات فكرية وثقافية مهمة تخلت فيها الحركة عن الكثير من أطروحاتها الطوباوية وقدر مهم من جمودها الآيديولوجي حتى باتت الكثير من أحزابها في أطروحاتها الفكرية والثقافية متماهية في ذلك مع الكثير مما تطرحه الحركة الليبرالية الأوروبية العريضة. وكنت أعتقد أن قدرا من هذا التغير قد أصاب الحركة الإسلاموية التركية إلا أن مواقفها الأخيرة من أحداث ميدان تقسيم واللغة التي وظفها قادة الحزب في وصف المختلفين معهم تكشف لنا أن سنوات الدولة العلمانية في تركيا التي قاربت القرن من الزمان لم تنزل بعد في عمق التكوين «الممارساتي» للحزب التركي الحاكم رغم قبوله بعلمانية الدولة التركية.

وإذا ما بدت الجماعة الإخوانية المغاربية ذات قابلية أكبر للتكيف والتغير مع متطلبات المرحلة التي تعيشها، أثبتت ممارسات جماعة الإخوان في المشرق العربي، أنها ذات قابلية أقل للتغيير والتكيف. بل إنها بدت ككل الحركات الشمولية ذات نزوع أكبر للاستحواذ على السلطة وإقصاء المختلف وانعدام القدرة ولربما الرغبة في الخروج عن الأطر التنظيمية للجماعة ونصها الفكري.

وفي زمن الثورات العربية فإن الكثير من التنظيمات الإسلاموية التي تصدرت الحراك أو تلك التي لحقت به قد رفعت شعار إقامة الدولة المدنية، إلا أن قولها هذا لا يبدو واضحا ودقيقا، إذ إن قولها بالدولة المدنية يصطدم مع تأكيدها بأنها دولة مدنية يجري إنجازها ضمن مرجعيات إسلامية!!.. فمدنية الدولة لا تعني لا دينية القائمين على إدارتها بل إنها تعني أولا: التساوي في الحقوق المدنية والسياسية لكل المواطنين باختلافاتهم الدينية والمذهبية والعرقية في النص والممارسة وثانيا تنبع أهمية التحول المدني للدولة من كونه عملية تقود إلى تحول آخر فيها وهو أن الدولة بممارساتها القائمة على العدالة الاجتماعية والمساواة وسيادة القانون والفصل بين السلطات تعبد الطريق دائما لأن تتبنى المخارج العقلانية لمشكلاتها..

بمعنى آخر أن رفض بعض الجماعات الإسلاموية لمبدأ الدولة المدنية أو قبولها باستحياء ضمن ضوابط تخترعها أو تنشد من خلالها سطوتها، إنما يعكس في واقع الأمر هذا التوظيف الكبير في بنائها التنظيمي والآيديولوجي للدين لتحقيق مكاسب سياسية مهمة. بل إن هذا يعكس محاولة التماهي بين الجماعة التنظيمية والدين. من هنا يصبح أي نقد لهم نقدا للدين وأي إطاحة بحكمهم إطاحة بحكم الدين في الدولة. وأي دعوة سياسية لهم دعوة للدين. فعندما خطب مرشد جماعة الإخوان محمد بديع لأول مرة في ميدان رابعة جاء خطابه موظفا للتعابير الدينية في صراع سياسي على السلطة قائلا «الله أكبر على كل من طغى وتكبر وخائن ومفرط في حق دينه» أو «اللهم إنك تشهد أن الجموع خرجت لنصرة دينك، ولتحرير مصر من محاولات سرقة ثورتها».

ويجب القول إن جماعة الإخوان قد دخلت لمؤسسة الحكم في مصر وهي تحمل نحوها قدرا من الشك والخوف من نزوعها نحو الاستحواذ على السلطة وإقصاء الآخرين. وهي في هذا لم تعمل ولربما لم تنجح في كسب ثقة القوى السياسية المعارضة الأخرى بل إن ممارساتها في السلطة من حيث تردد وقلة خبرة رئيس الدولة وانحيازه الكامل في مشاوراته وتعييناته لأفراد الجماعة والدوائر القريبة منها، قد عمقت من حالة انعدام الثقة فيها، إن لم نقل إن هذه الممارسات قد نظر إليها من قبل الأقباط المصريين وأصحاب المذاهب الإسلامية الأخرى على أنها انحياز عصبوي أخذ بعدا طائفيا للدولة بوجود الإخوان في السلطة.

وقد دخلت الجماعة للدولة وهي تحمل نحوها عداء تاريخيا من قبل المؤسسة العسكرية والأمنية. وأعتقد أن سنة حكم مرسي لمصر كانت زواجا قسريا لم تستطع المؤسسة العسكرية والأمنية الاستمرار فيه فأنقذته احتجاجات 30 يونيو وما قبلها المطالبة بإنهاء ما سموه «حكم المرشد».

وأعتقد أن أخطاء السنتين الماضيتين في مصر لا تتحملها جماعة الإخوان فحسب، بل إن جزءا مما قد يقال عن شمولية وانغلاق ودغماتية جماعة الإخوان هو مشكلات تعاني منها كذلك بعض من القوى المحتشدة في ميدان التحرير. إن طبيعة البناء التنظيمي والفكري للجماعة قد تجعل منها جماعة قادرة على قيادة حزب سياسي إلا أنها أثبتت أنها بافتقارها للبرنامج الجامع غير قادرة على قيادة دولة ومجتمع يحمل قدرا من التنوع والتعددية السياسية والثقافية والدينية لا يقبل فيها التنميط والقولبة. وبالمقابل فإن الدعوات التي ازدادت وتيرتها في مصر حاليا والداعية لحل الجماعة لن تحل مشكلات مصر، فهي مشكلات في بعضها كانت هناك قبل أن يأتوا إلى السلطة وستستمر من دونهم في غياب رؤى استراتيجية لإعادة بناء مؤسسة الدولة ودورها في المجتمع.

إن مصر كمجتمع ودولة وقوى سياسية واجتماعية، وبعد سنتين ونيف من حالة اللااستقرار والفوضى، وهي حالة طبيعية تمر فيها كل الثورات في العالم، مطالبة بالانتقال من السياسات والمواقف التي تبني من الشارع إلى سياسات ومواقف تبنى وتؤسس من داخل مؤسسات الدولة، وهي حالة تحتاج مصر فيها لفسحة زمنية وأخرى عقلية حتى تصل إليها، تراجع خلالها، ليس جماعة الإخوان فقط، كل أخطائها في المرحلة السابقة وإنما كذلك كل القوى السياسية المعارضة. فدون حوار وطني جدي يفضي إلى شراكة سياسية حقيقية تتمثل فيها كل القوى السياسية والاجتماعية والدينية المصرية، فإن فوضى الشارع التي تفضي إلى فوضى في الدولة والمجتمع ستستمر.