شمال وجنوب وإفلاس

TT

فجأة، أعلنت إحدى كبريات المدن الأميركية إفلاسها. ديترويت عاصمة صناعة السيارات الأميركية وقلب إنتاج موسيقى الأفارقة الأميركيين والمعروفة باسم «موتلون» اختصارا لكلمة مدينة السيارات.. أعلنت إفلاسها بعد سنوات من التدهور والانهيار المتواصل في البنية التحتية واختفاء وتقلص أعداد هائلة من سكانها، وتراكم ديونها وانخفاض هائل في مواردها وهروب الكثير من شركاتها الكبرى. كانت النتيجة متوقعة، ولكن مع ذلك كله بقي الإعلان مفاجئا.

ديترويت التي كانت المركز الرئيس لعمالقة السيارات الأميركية مثل «جنرال موتورز» و«فورد» و«كرايسلر»، وكان المثل الأميركي المعروف يقول: «كيفما سارت (جنرال موتورز) سارت أميركا».

صناعة السيارات رغم أنها تقليديا عرفت بأنها في ولاية ميتشغان ومدينتها المشهورة ديترويت، فإنه لسنوات طويلة هناك مغناطيس جاذب لهذه الصناعة باتجاه الجنوب الأميركي، فعبر السنوات التي مضت كانت شركات أجنبية، مثل «تويوتا»، «نيسان»، «هوندا»، «مرسيدس»، «بي إم دبليو» تفتح المصنع تلو الآخر في ولايات جنوبية مثل ألاباما وتينيسي وتكساس وساوث كارولينا وغيرهم، وتحقق نتائج هائلة للسوق الأميركية الداخلية، وكذلك الأمر بالنسبة لحصة التصدير أيضا. وما حصل في أميركا بعد أن كانت الهيمنة للشمال فيها على حساب ولايات الجنوب منذ انتصار الأولى على الثانية خلال الحرب الأهلية الأميركية المعروفة، يبدو أنه انقلبت الصورة اليوم وباتت ولايات الجنوب هي الأقوى والأكثر حضورا وتأثيرا في الصناعات تحديدا، بل إن ولايات الجنوب الفقيرة، مثل ساوث كارولينا وأركنساس ومسيسبي، تعيد بعض الصناعات إليها بعد أن هجرت أميركا لدول الشرق الأقصى نظرا لتدني أجور الأيدي العاملة في تلك الولايات بدرجة أقل من أجور الأيدي العاملة في بعض دول الشرق الأقصى، وذلك بسبب الأزمة المالية الهائلة التي تمر بها أميركا كما بات اليوم معروفا.

وهو إلى حد ما نفس المشهد العالمي الذي ينتقل ثقله الاقتصادي من دول الشمال إلى دول الجنوب، فمع «الشلل الاقتصادي» الكبير الذي أصاب دول القارة الأوروبية العجوز والولايات المتحدة الأميركية، صاحبة الاقتصاد الأكبر عالميا، تظهر دول «جنوبية» تقوم بأداء اقتصادي بارع ومبهر، دول مثل البرازيل والهند وجنوب أفريقيا والأرجنتين وكوريا الجنوبية وإندونيسيا وماليزيا وتايلاند، على سبيل المثال لا الحصر طبعا.

ما حدث في ديترويت الأميركية مرشح، وبقوة كبيرة، أن يتكرر في مدن أخرى تترنح تحت تأثير الاقتصاد المنهار، وهناك حديث عن أزمة خانقة تتعرض لها مدينة فيلادلفيا العريقة التي شهدت كتابة الدستور وفيها جرس الحرية الشهير، وفيلادلفيا هي الأخرى تعاني هجرة أعداد كبيرة من رجال الأعمال وتفشي الجريمة وتدهور حاد في البنية التحتية للمدينة.

وهناك تدهور حاد في وضع أكثر من مدينة أخرى بسبب نفس الأعراض الحادة. الشمال «العالمي» يعاني مشاكل مزمنة، فهو مجتمع يشيخ بسرعة كبيرة ولا يوجد نسبة نمو في شبابه وسكانه، مما يعني أنه مع الوقت سيكون عاجزا عن توفير القوى البشرية الذاتية لخدمة النمو الاقتصادي المطلوب، ولا بد عليه من الاستعانة بالمهاجرين، وهي مسألة تفزع «الوطنيين» أو اليمين المتطرف في هذه الدول، نظرا لما يراه من أخطار «مدمرة» على العادات والقيم وعدم قدرة المهاجرين على التأقلم معها، وتشكيلهم تهديدا مباشرا لأمن هذه المدن، وذلك بحسب اعتقاداتهم. وكذلك سيكون وضع القطاع الصحي فيها مهددا نتاج الضغوطات الهائلة عليه ودخول مجاميع عمرية كبيرة مرحلة الشيخوخة التي ستأتي معها مجموعة أمراض ليست بالبسيطة.

هذا سيجعل من الاقتصاد الأوروبي يميل بالتدريج إلى الاقتصاد الخدمي وليس الصناعي مع بقائه قويا في مجال الزراعة التقليدي، ولكن الصناعة الثقيلة في أوروبا ستستمر، غير أنها ستكون آلية بشكل كبير دون اعتماد على الأيدي العاملة كما كانت عليه الأمور تقليديا قديما. ديترويت وإفلاسها الكبير بمثابة جرس إنذار يدوي وبقوة عما ستؤول إليه الأمور الاقتصادية بشكل «جغرافي» مستقبلا، وبقدر ما هو مدعاة للحذر بقدر ما هو مدعاة أيضا لاستغلال الظرف.