تركيا وسوريا ومنطقة الحكم الذاتي؟

TT

ظلت الحدود الجنوبية الشرقية لتركيا مع سوريا نابضة بالحياة والنشاط لفترة طويلة، وأشار تقرير في الآونة الأخيرة إلى حدوث اشتباكات على تلك الحدود منذ بضعة أيام بين الجيش السوري الحر وجبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي. وبدت الصورة مثيرة للاهتمام، حيث بدأت جماعات المعارضة التي كانت تقاتل الأسد في البداية وتتعرض للمذابح على مدى أكثر من عامين تقاتل بعضها بعضا، وكأن سوريا التي دمرت ليس بها ما يكفيها.

وتأثرت المناطق التركية المتاخمة لتلك الحدود تأثرا كبيرا بسب المعارك الدائرة في بلدة رأس العين الحدودية، وهو ما أدى لمقتل شاب تركي في السابعة عشرة من عمره وإصابة أربعة آخرين، كما وصل الرصاص إلى المنازل وأماكن العمل، وتوقفت الحياة تماما وأغلقت المحال التجارية أبوابها، ورد الجيش التركي على تلك الهجمات. وكانت تركيا قد تعرضت للهجوم من قبل وردت مرتين، وهو ما يعني أن الاشتباكات المتبادلة ليست شيئا جديدا، ولكن الشيء الجديد هو أن الأمر لم يعد هادئا كما كان من قبل، حيث تحدث وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو بقوة، قائلا: «من الآن فصاعدا، سيكون الرد فوريا». ويعني هذا أن التعامل مع ذلك التهديد سيكون مختلفا هذه المرة. وأضاف أوغلو: «أي وضع جديد وغير متوقع ستكون له عواقب أكثر سلبية».

في الحقيقة، لم تكن هذه التصريحات متوقعة من تركيا التي دائما ما تسعى للسلام والمصالحة والتسامح. وللوهلة الأولى، قد يتخيل البعض أن المشكلة تكمن في سلامة الحدود وأن وزير الخارجة التركي قد أدلى بهذه التصريحات بهدف الردع لا أكثر، ولكن الأمر غير ذلك والوضع أكثر خطورة.

وحتى يمكننا إدراك ذلك، دعونا نلقي الضوء على العلاقة بين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وحزب العمال الكردستاني، والتهديد الذي يمثله حزب العمال الكردستاني في تركيا على مدى 30 عاما. لقد أطل الإرهاب بوجهه القبيح على تركيا لمدة 30 عاما وقام حزب العمال الكردستاني بقتل أكثر من 35 ألف فرد من القوات التركية، وقام بعمليات انتحارية في مراكز المدينة، وكان هو التهديد الرئيس الذي تواجهه تركيا. يعتقد الناس في الخارج أن مشكلة حزب العمال الكردستاني في تركيا هي مشكلة كردية في الأساس، ولكن الحقيقة هي أن هذا الحزب عبارة منظمة تستخدم الهوية الكردية العرقية قناعا، حيث سبق لزعيم الحزب المعتقل حاليا عبد الله أوجلان أن قال: «أنا اليوم مثل لينين في القرن العشرين». ولذا لم يعد هناك مجال للشك حول هذه النقطة. ويتعين علينا أن نتذكر هنا أن أعضاء حزب العمال الكردستاني قد تدربوا على يد سوريين في الأراضي السورية خلال السنوات الأولى لتكوين الحزب.

الجدير بالذكر أن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي هو فرع لحزب العمال الكردستاني تأسس عام 2003 في سوريا، ويخضع الحزبان لقيادة أوجلو ويتخفيان تحت نفس القناع العرقي الكردي ولديهما نفس الفكر اللينيني والستاليني.

وفيما يتعلق بالقتال العنيف مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في شمال سوريا، تتجه الأنظار أولا نحو بارزاني الذي قام بتجميع الجماعات الكردية في أربيل ووقع معهم بروتوكولا، وتخيل البعض أن الهوية «الكردية» سوف تجعل بارزاني قادرا على فرض إرادته على حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، ولكن ما يهم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ليس الهوية الكردية، ولكنها الهوية الماركسية، ولذا لم يتمكن بارزاني من فرض إرادته، ولم يستمع الحزب إليه.

وما أثار قلق تركيا هو قرار حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي إقامة منطقة حكم ذاتي في شمال سوريا. والشيء الغريب حقا هو أن الرئيس السوري بشار الأسد يرحب بذلك. وربما يكون السبب الوحيد الذي يجعل الأسد، الذي كانت علاقته بالأكراد تتغير صعودا وهبوطا، يرحب بمنطقة حكم ذاتي للأكراد، هو وجود آيديولوجية مشتركة بين الأسد وبين هذا الحزب، حيث يسعى الأسد للحفاظ على الديكتاتورية القائمة على الماركسية في سوريا، علاوة على أن وجود منطقة حكم ذاتي تقوض المعارضة ستناسبه تماما.

إن السبب الذي أعلن من أجله حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي عن إقامة منطقة حكم ذاتي يمثل العمود الفقري للتهديد الذي تواجهه تركيا، بمعنى دعم وتقوية حزب العمال الكردستاني الذي عقدنا معه اتفاق سلام. ولطالما قلت في مقالاتي في تركيا إن عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني لا يمكن الوثوق بها، وإن الإدارة في هذا الحزب سوف تبقى على الحياة من خلال القلاقل، وليس السلام، وإن ما يقوم به حزب العمال الكردستاني ما هو إلا تكتيك لكسب الوقت حتى يستعيد عافيته. وأشارت بعض التقارير إلى أن مقاتلي حزب العمال الكردستاني قد انتقلوا من تركيا إلى سوريا وقاموا بتدريب حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وأعتقد أن هذه التقارير قد ثبتت صحتها بالدليل القاطع بعدما نجح حزب الاتحاد الديمقراطي الضعيف في حقيقة الأمر في فرض نفسه بهذه القوة خلال أشهر قليلة للغاية. وثمة دليل آخر يتمثل في التهديدات القوية التي أطلقها قادة حزب العمال الكردستاني للإدارة التركية خلال الأيام القليلة الماضية.

وعلى هذا الأساس، تواجه تركيا نفس التهديد الذي كانت تواجهه قبل 30 عاما من الآن. ودائما ما كان الهدف الأساسي لحزب العمال الكردستاني هو تقسيم تركيا وإقامة نظام يناسبه. والآن، فإن نظام الحكم الذاتي الكردي، المدعوم بنظام الأسد، يهدد أمن تركيا الحدودي ويقوي حزب العمال الكردستاني، وهو ما يعد تهديدا خطيرا لتركيا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وأود أن أقول لمن يؤكد على أن «تركيا لن تهاجم مطلقا» إن هذا يعد بمثابة إعلان حرب على تركيا.

إعلان الحرب من جانب تركيا، التي ظلت تلتزم ضبط النفس طويلا في مواجهة أخطاء الأسد، يعني نهاية نظام الأسد، فالجيش السوري ضعيف ومقسم إلى جبهتين ومسلح بأسلحة قديمة تعود للحرب العالمية الثانية - رغم جهود روسيا لإعادة تسليحه - وهو ما يعني أن الجيش السوري لن يصمد أمام الجيش التركي المدرب على معايير حلف شمال الأطلسي في الحرب غير التقليدية، ويضم أسطولا جويا ضخما وطيارين من أفضل الطيارين في العالم، ومجهز بتكنولوجيا القرن الحادي والعشرين، ناهيك عن أنه واحد من أكبر وأقوى الجيوش في العالم. وبالإضافة إلى ذلك، سوف يضطر الجيش السوري للدفاع عن مواقعه ولن يكون قادرا على مغادرة المنطقة، ولذا لن يكون أمامه أي فرصة أمام الجيش التركي القادر على المناورة في البر والبحر والجو. كما أن تركيا لن تكون بحاجة إلى دعم الولايات المتحدة، التي لن تحرك ساكنا على الأرجح، أو أي دعم من الاتحاد الأوروبي.

أنا لا أفضل الحرب، ولكن هناك خطرا جامحا يهدد سلامة تركيا ووحدة أراضيها. ولو انقسمت دولة قوية وحيوية من الناحية الاستراتيجية مثل تركيا واستسلمت للمجموعات الماركسية، فسيكون لهذا تداعيات خطيرة على العديد من البلدان الأوروبية السعيدة بما يجري الآن. ولو انتقل هذا التهديد إلى ما هو أبعد من تركيا وبدأ يتجه نحو دولة شيوعية عالمية، فسوف تدرك أوروبا حينئذ حجم هذا التهديد. في الحقيقة، يتعين على تركيا أن تتبنى سياسات تعليمية مناهضة للماركسية كي لا يأتي الوقت الذي تندم فيه على عدم القيام بذلك.

دعوني أذكركم مرة أخرى بأن ما يحدث في شمال سوريا يتعدى أي نشاط عرقي راديكالي، ويبدو أن تركيا مستعدة لاتخاذ خطوة في هذا الشأن، وسيكون من الرائع لو أدرك العالم حجم هذا الخطر بسرعة.