حدود نجاح كيري

TT

أعجبني عنوان لمقالة صحافية إسرائيلية، تصف ما حدث مع كيري مؤخرا «بالتشاؤم الحذر» أي أن القاعدة هي التشاؤم، والحذر يعني الاحتمالات الضئيلة للنجاح.

وما يوفر لهذا الوصف كثيرا من المصداقية، تراث الفشل المتراكم الذي مني به اللاعبون الكبار على ملعب الشرق الأوسط، وأولهم بالطبع اللاعب الأميركي وشركاؤه الأوروبيون والروس والأمم المتحدة.. هذا أولا..

وثانيا.. وهنا يفرض القياس نفسه منطقيا، فإذا كان القبول الأولي بالجلوس على الطاولة قد استغرق ست زيارات للشرق الأوسط ومئات الساعات أنفقها الوزير كيري في إقناع الطرفين.. فكم من الوقت يحتاج لبلوغ اتفاق حول قضايا الوضع النهائي، وهي القضايا التي تم تفادي الحديث الجدي عنها نظرا لاستحالة بلوغ اتفاقات حولها.

غير أن الذي تم حتى الآن، ولا يجوز التقليل من أهميته، ينطوي على نوع من قلب المنطق البديهي، ولكن بطريقة تنطوي على منطق جديد.

المنطق البديهي يقول إن المفاوضات عبر التاريخ القديم والحديث هي الوسيلة الأخيرة والوحيدة لبلوغ اتفاقات وتسويات، أما المنطق الجديد فقد كرس فكرة مختلفة، بحيث أضحت المفاوضات هدفا بحد ذاته، أي أنها تلزم لجميع اللاعبين الدوليين والمحليين.

الأميركيون بحاجة إلى بدء المفاوضات دون الإلحاح على ضمان النتائج، وذلك لأن الوضع المتفجر في الشرق الأوسط، والعجز الأميركي عن إثبات حضور فعال في تطوراته المتسارعة، دفع بالإدارة الأميركية إلى التركيز على المسار الفلسطيني الإسرائيلي، وإذا ما اقتصر الأمر على إحضار الجانبين إلى مائدة المفاوضات فتلك هي المهمة السهلة، والتي تحتمل أن توصف مع كثير من الدعاية بالاختراق.

أما الإسرائيليون الذين يقولون «لا» لمجرد مضاعفة المردود، فإنهم سيكسبون حتما من عودة المفاوضات، ما دام مفتاح الصندوق في أيديهم، وما دام ثمن العودة إلى المفاوضات بسيطا إلى الحد الذي يمكن تحمله دون إلحاق أي أذى بالمصالح الإسرائيلية، سيفرجون عن عدد من المعتقلين، وسيتحايلون على حكاية الاستيطان بطرقهم المألوفة، أي الإعلان تارة والصمت تارة أخرى، ومواصلة تنفيذ العطاءات القديمة، ومن يدقق في التفاصيل؟

أما مسألة حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967، فهم يعرفون جيدا أن المفاوضات سوف تجري على هذا الأساس.. إلا إذا طرحت إسرائيل فكرة تنفيذ الجزء الفلسطيني من حل الدولتين على حدود نيكاراغوا أو جزر الكناري.

أما الفلسطينيون الذين تعرضوا لأقوى حرب نفسية، قبل بلوغ الاتفاق وجرى تهديدهم بلقمة عيشهم، وتعقيد أمور حياتهم، وتقييد حركة قياداتهم، فهم بمنطق الحسابات البديهية البسيطة لا يحتملون دفع ثمن إفشال جهود الوزير كيري، خصوصا أن العالم كله يدعوهم إلى التعاون بما في ذلك أشقاؤهم العرب الذين سُمح لهم بلعب دور المشجع، أو من يوفر الغطاء لما يتم تحصيله. ووراء هؤلاء الثلاثة أي أميركا وإسرائيل والفلسطينيين، يقف الروس داعمين ومباركين لأن همهم الراهن ليس هنا وإنما في مكان آخر، ويتحمس الأوروبيون الذين ملوا دور الداعم الاقتصادي لمشروع سياسي غير مسموح لهم بالتدخل فيه، فلعبوا لعبة الاستيطان في وقت مناسب. أما بان كي مون فيبارك الاتفاق، إذ ليس للسكرتير العام من وظيفة في شأن كهذا أبعد من ذلك.

إذا صار التفاوض هدفا ملحا لكل الأطراف، ومهلا وعلى أقل من مهل.. تنطلق السلحفاة على طريقها الطويل، وإذا ما نفذ الوقت المفترض لبلوغها المحطة الأخيرة أي خلال تسعة أشهر، وهي فترة الحمل الطبيعي، فساعتئذ يستعين رعاة العملية بالأرشيف، لاستخراج ذلك المصطلح المتداول في أوقات الفشل «لا مواعيد مقدسة».

حتى الآن هذا ما حدث، ولهذه الأسباب «الوجيهة» حدث ما حدث، وبوسع الجميع الزعم بأنهم حركوا الأمور بعد أن تجمدت، وأعادوا الروح لجسد محتضر، وسينعمون بالمزايا والإغراءات التي هي أفضل من بلاش.

قد لا يعجبنا هذا الاستنتاج أو هذه الخلاصة، إلا أن الواقع المهيمن على منطقتنا يجعل ما تم هو أقصى الممكن، فقليل من الحركة أفضل كثيرا من الموت.