أفق المجتمع السياسي في مصر

TT

استطاعت حركة تمرد أن تقوم بما لم تستطع الأحزاب السياسية القيام به في مصر.لا، الأحق أن نقول إنها قامت بما لا تملك الأحزاب السياسية القيام به في المرحلة الحالية على الأقل. ذلك أنها امتلكت القدرة على تنظيم الوعي السياسي وتوجيهه نحو هدف واحد أمكن الاجتماع حوله، وكان النجاح الباهر الذي تم تحقيقه. واقع النجاح الباهر هذا، وما تعيشه المحروسة حاليا من حال الحماس والترقب والتهديد معا، يحمل على طرح الأسئلة الثلاثة التالية: أولها لماذا استطاعت حركة تمرد أن تحقق كل هذا النجاح الباهر الذي حققته؟ وثانيها: هل يعني هذا الواقع أننا أمام حال جديد يدق عن الفهم المعتاد الذي تمكن العلوم السياسية من تقديمه حول قدرات وحدود المجتمع السياسي في الفعل السياسي؟ وثالث الأسئلة، وربما كان أكثرها خطورة: ما الأفق الممكن بالنسبة للعمل السياسي الطبيعي في أرض الكنانة؟

قد يبدو السؤال الأول بالنسبة للبعض سؤالا متجاوزا، وربما رأى فيه البعض الآخر تأخيرا عن العمل وانصرافا عن القضايا الأكثر أهمية واستعجالا. غير أننا نرى في الوقوف عنده مدخلا ضروريا من أجل النظر إلى المستقبل القريب في مصر، ثم إننا نرى من خلاله سبل فهم محاولات مماثلة (في الظاهر على الأقل) في مناطق غيرها من العالم العربي.

يصح القول إجمالا إن حركة تمرد في أرض الكنانة قد نجحت؛ لأن الأسباب الطبيعية والمنطقية قد اجتمعت للنجاح الذي حققته. فمن جهة أولى لا تزال في النفوس وفي الوجدان أشياء كثيرة من الثورة المبتسرة أو الناقصة أو المغتصبة من ثورة 25 يناير (كانون الثاني) نتيجة للغموض الشديد الذي لف الوجود السياسي في مصر غداة الإطاحة بالرئيس حسني مبارك، فقاد جماعة الإخوان المسلمين في حال من الوله والدهشة من قبل الشعب المصري. نعم كان قدوم محمد مرسي ثمرة لما قضى به «الصندوق»، ولكن الواقع أيضا أن الوصول إلى سدة الحكم كان أيضا ثمرة لما ينعت في القاموس السياسي بـ«التصويت العقابي» (= التصويت لمرسي حتى لا يترك المجال مفتوحا لأحد رموز العهد المدان)، وهذا بالنسبة للغالبية العظمى من الناخبين مثلما كان بدافع إعطاء فرصة لجماعة تلوح بشعارات إصلاحية تخاطب الوعي الديني لشعب شديد التدين. ثم إن هنالك عاملا قويا وحاسما وهو أن «الإخوان المسلمين» كانوا التنظيم الأكثر قوة وتماسكا بعد إذ اغتنى بتجارب عقود سبعة من العمل السري، ومن القدرة على الطاعة والامتثال، فضلا عن التغلغل العميق في بنية المجتمع المدني المصري. ومن جهة ثانية تراكمت في الوجدان المصري مرارات الخيبة والألم من واقع اقتصادي يزداد في كل يوم سوءا وتدهورا - ناهيك عن العجز الذي أبانت عنه الدولة في تطويق حال الانفلات الأمني، والفرق الهائل بين الوعود المعسولة التي أسرف الرئيس محمد مرسي في التلويح بها، فضلا عما بدا ملموسا من التضييق على المثقفين والإعلام مع جنوح واضح إلى «تمكين» الإخوان من أكثر المناصب والمواقع حساسية في الدولة مع ما يخلفه ذلك كله من آثار في النفوس وفي العقول. يصح القول في هذا المعنى إن حركة تمرد استطاعت أن تستقطب الوعي المصري، وأن توجه التذمر نحو بؤرة تنمو كما هو الشأن في كرة الثلج المتدحرجة. لنقل إن تمرد قامت بدور المهماز أو الثقاب الذي أشعل الفتيل الذي كان كل ما حوله يخلق المناخ الملائم لاشتعاله وارتفاع لهيبه وسرعة انتشاره. أصبح الدور متوفرا، فظهر الممثل الأكثر قدرة على القيام بالدور، ومن هذه الزاوية فإن حركة تمرد ليست بدعا في تاريخ الانتفاضات والثورات - ولكن هذا كله لا ينتقص في شيء من جدية وإخلاص وعبقرية الشباب الذي كان وقود الحركة وروحها.

حركة تمرد، من حيث التصنيف المعتاد، أحد تجليات المجتمع المدني غير أنها قد امتدت إلى ما يدخل في صميم عمل المجتمع السياسي ويرجع إليه، فهل يجوز القول إذن إن المجتمع المدني، القوي والقادر على التغلغل في الوعي الجماعي، يملك أن يلغي الدور الذي يناط في المعتاد بالأحزاب والتنظيمات السياسية وبالتالي المجتمع السياسي؟

لا نحسب أن الأمر البتة كذلك؛ ذلك أن في هذا الاعتقاد استصغارا لوعي شباب حركة تمرد، فالحركة قد رسمت لنفسها هدفا واضحا يؤول معناه إلى الحرص على حماية الثورة وعلى الإبقاء على الوعي الجماعي في حال من اليقظة والإيمان بما قامت ثورة 25 يناير من أجله. كما أن في نظر مماثل إلى الوجود السياسي قصورا عن الإدراك الصحيح للحياة السياسية السليمة الطبيعية - هنالك فرق واضح بين التوجه إلى الوعي ومخاطبته وبين التنظيم الطبيعي لعمل المؤسسات التشريعية والتنفيذية. أما هذا التنظيم فهو يستوجب وعيا بين عمل يستهدف الوصول إلى السلطة التنفيذية وامتلاكها كلا أو شراكة بواسطة الطرق القانونية المشروعة، وذلك بغية تنفيذ برامج اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية، وبين عمل يتوجه إلى قطاعات جانبية من المجتمع (= عمل الجمعيات والتنظيمات النقابية وكل القوى التي يطلق عليها تعبير القوى المضادة أو المقابلة مثل الإعلام وغير ذلك). هي متى شئنا ذلك مسألة توزيع طبيعي للعمل في الدولة الحديثة، تلك التي تنعت حينا بالدولة المدنية، وتنعت حينا آخر بدولة القانون، والمعاني الثلاثة كلها تلتقي وتتقاطع، حيث كان الاختلاف والتعدد من سمات الحياة الاجتماعية - السياسية، وكان الاعتراف بهذا الواقع من علامات الصحة والبهاء وجب أن ينظم الاختلاف في برامج اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية، وتعين أن يكون الصراع بين تلك البرامج وأن يكون خلف كل منها قوى سياسية منظمة يعكس كل منها صورة من صور المجتمع ويعبر عن رؤاه من أجل العيش المشترك مع وجود الاختلاف والتعدد. من ثم كانت الأحزاب السياسية في الدولة المدنية ومن ثم كان تجريم أو تحريم تأسيسها على أسس دينية أو عرقية أو جهوية داخل الدولة الواحدة. كل هذا من أوليات الفكر السياسي، غير أن التذكير بها يبدو، بين الفينة والأخرى، وفي أحوال مثل التي تجتازها مصر (والعالم العربي ضمنا) أمرا محمودا.

لا معنى للقول إذن إن حركة تمرد تنتسب إلى المجتمع السياسي وعمله الكلاسيكي، وهذا من جهة أولى كما أنه لا فائدة من القول إن من شأن الحياة السياسية الطبيعية في مصر - وفي غير مصر - أن تكون في غيبة عن المجتمع السياسي الفاعل والقوي بقدرته على التغلغل في الجماهير وعلى إفراغ الوعي السياسي في برامج سياسية واقتصادية وأخرى اجتماعية وثقافية يكون الصراع من أجلها.