حركات التمرد وشرعية الإمضاءات

TT

بعد مقدمات عدة لم ينتبه إليها الجميع، انتقل الحديث من الثورات العربية إلى حركات التمرد في أكثر من قطر عربي.. انتقال اعتبره البعض سلسا ومفهوما ومبررا واعتبره الشق الآخر الموالي للنخب السياسية الإسلامية في مصر وتونس انقلابا وخطرا على الديمقراطية والشرعية الانتخابية. ومن ثم فإن شبه الإجماع الذي عرفته ثورتا تونس ومصر لا يمكن سحبه على حالة الانقسام التي تشهدها حركة تمرد مصر وحركة تمرد تونس.

طبعا أصبحنا اليوم نعاين حركات تمرد يبدو أنها في تنام رغم أن البعض منها اختار توصيف «تمرد» دون أن يعيش حدث الثورة كما هو الحال في المغرب والبحرين.. فهل يعني الانقسام الموقفي حول حركات التمرد هذه أنها تفتقد إلى المبررات والمشروعية الصلبة؟ ثم هل أن حركة التمرد في قطيعة مع الثورة أم أنها امتداد وذلك في استعارة غير مباشرة لمفهوم الثورة الدائمة؟

نعتقد أن قراءة حركات التمرد وتحديدا حركتي مصر وتونس خارج إطار الثورة وسياقها واستمراريتها أمر لا يخلو من تجن على الثورة نفسها. ذلك أن الثورة كفعل يهدف إلى قلب كل شيء واعتماد نظرية الهدم ثم البناء إنما هو حدث حتمه الوضع الذي كان قائما قبل الثورة، حيث لا انتخابات نزيهة ولا مصداقية لصناديق الاقتراع ولا حتى مشهد سياسي يلبي أدنى طموحات الشعب. لذلك فإن الثورة هي فعل لا يعترف بالنظام القائم ويطالب بالبديل عن طريق آلية الثورة.

من هذا المنطلق، وجد ثائرو الأمس القريب جدا أنفسهم في وضع يستحق رد فعل آخر له قرابة من حيث المعنى والدلالة مع الثورة دون أن يكون ثورة. فكانت فكرة حركات التمرد باعتبار أن التمرد بما يعنيه من عصيان ورفض هو السلوك المناسب لسياق يختلف عن زمن الأنظمة الديكتاتورية لما قبل الثورة. فحركات التمرد نشأت في ظروف سياسية مختلفة وأول أمارات الاختلاف أن النخب الحاكمة وصلت إلى الحكم عن طريق انتخابات نزيهة عكست إرادة الأغلبية النسبية في الشعبين المصري والتونسي. ويبدو أن بعض الشباب الثائر في الأمس وجدوا أن التمرد على صناديق الاقتراع أصلح من الثورة عليها. ورغم أنه - أي التمرد - ضد نتائج صناديق الاقتراع إلا أنه تمرد يقوم على اجتهاد وابتكار آليات موازية للشرعية الانتخابية.

من جهة أخرى، هناك نقطة نعتقد أنها مهمة جدا وهي أن الخزان الديموغرافي للثورة هو نفسه لحركات التمرد أي أن الفئة الشبابية هي الغالبة على المشاركين في حركات التمرد تماما كما كان الأمر في الثورة. فالثورة كانت شبابية بامتياز والتمرد أيضا هو شبابي بامتياز وهو ما يعني أن النخب الحاكمة قبل الثورة وبعدها فشلت كلها في إشباع توقعات فئة الشباب الخصم اللدود الصانع للتغيير الاجتماعي. فالشباب هم ربع الشعب المصري (20 مليون) وثلث الشعب التونسي (9.9 2%) وهم المحرك الاجتماعي والاقتصادي وما دامت الخصومة مع هذه الفئة متواصلة، فإنه لن تهنأ أي نخبة سياسية تحكم في تونس أو مصر.

ولقد أظهرت حركات التمرد أن هذه الفئة تتميز لا فقط بالطاقة والصمود، بل وأيضا بالذكاء. من ذلك أنها واجهت شرعية صناديق الاقتراع بشرعية الإمضاءات وهو اجتهاد تسبب في إحراج كبير للنخب الحاكمة التي تتبجح بالشرعية وبأنها خيار شعبي وتجسيد بليغ لإرادة شعوبها. وأن تجمع حركة تمرد مصر 20 مليون توقيع، فإن هذه النتيجة مثلت صدمة قصمت ظهر الإخوان في مصر وساهمت إلى أبعد الحدود في قلب المعادلات. كما أن جمع نحو 870 ألف إمضاء في تونس وتوقع بلوغ قرابة مليوني توقيع قبل موفي الشهر الحالي.. إنما يشكل مثل هذا التكتيك استراتيجية ذكية ذات لغة قوية تعتمد الأرقام والإمضاءات حجة لمقارعة الشرعية الانتخابية والحد من أهميتها وتنسيب مصداقيتها بمرور الوقت وتراكم الإخفاقات.

أيضا كون حركات التمرد لم تتشكل مباشرة بعد الانتخابات، فهذه مسألة مهمة جدا وتصب في صالحها لأنها تظهر أن التمرد ليس على نتائج صناديق الاقتراع رغم أنها كانت محبطة للكثيرين بل مع الفائزين الذين استفادوا من الديمقراطية ونالوا ثقة شعوب حديثة الثورة والحماسة ولكن لأسباب كثيرة أظهر الواقع أنه بعد مرور سنة في مصر وقرابة السنتين في تونس فشلت النخب السياسية الإسلامية في تلبية استحقاقات الثورة.

والمشكلة الكبيرة التي أصبحنا نعيشها اليوم هي أن الثورة في الأمس القريب كانت اقتصادية واجتماعية بالأساس في حين أن التمرد الراهن وإن كان نتاج احتجاجات اقتصادية، فإن البعد الأيديولوجي للتمرد أمر موضوعي ولا نستطيع التغافل عنه وهنا يكمن الوجع الحقيقي الذي سيلازم المرحلة القادمة على المدى القريب أو البعيد.

ويكفي أن ندخل معركة أيديولوجية مسكوت عنها حتى نكون قد أجهضنا جميعا ودون استثناء أسباب الثورة وطموحاتها.