في معنى التأثير!

TT

تتحفنا المجلات المختلفة حول العالم بقوائم متنوعة عن أغنى الشخصيات وأثرى رجال الأعمال وفيها أخرى تتخصص في أهل الفن وغيرها تغطي أهل الرياضة، وهناك في أهل السياسة، ولكن مؤخرا بدأت قائمة «مختلفة» تحظى بالاهتمام والمتابعة، والقائمة تغطي الشخصيات «الأكثر تأثيرا» وهي جملة مطاطية ومبهمة ورمادية غير واضحة الملامح ولا الفهم، فما هو المقصود «بالتأثير» كل ذلك بقي غامضا وغير واضح مع الاطلاع على القوائم الواحدة تلو الأخرى، عاما بعد الآخر، وخصوصا أن «التنوع» في الشخصيات وفي الخلفيات التي تدعم اختيارها لا تعكس نمطية ولا منهجية ولا أسلوبا موحدا للاختيار. وعلى الأرجح أن هذه «العشوائية الاختيارية» الغرض منها هو الترويج والتسويق وليس التبيان ولا التوضيح ولكن هذا الأمر فتح موضوعا جميلا ومثيرا للنقاش مع بعض الأصدقاء الذين اجتمعت معهم في أمسية رمضانية جميلة، والموضوع كان عمن هم الشخصيات الأكثر تأثيرا في حياة الأشخاص والمجتمعات بصورة عامة. فبعيدا عن الإجابات النمطية والتقليدية التي تشمل الجد أو الأب أو الأم أو معلم المدرسة، الحديث كان يتضمن كيف أن بإمكانية «شرطي المرور» أو «موظف حكومي» أن يؤثر بقراره على حياة عشرات الآلاف من المواطنين سلبا أو إيجابا أو موظف في البلدية أو في الشؤون الصحية بقرار يأخذه أو بآخر يرفضه سيجعل من حياة الناس مريحة وأكثر سلاسة أو يضيق عليهم ويملأها هما ونكدا. هذا هو التأثير الحقيقي والمباشر، وهناك التأثير غير المباشر ولكنه لا يقل أهمية.. عالم دين مستنير ومطلع وواسع الإدراك ولديه القدرة العملية والشمولية على فهم فقه المقاصد بشكل حقيقي، فيفهم مغزى وروح الشارع وبالتالي يقدم الدليل والحجة والرأي الشرعي الذي يفتح بابا للخير والتيسير والوسطية بدلا من سد الباب بحجة الذرائع فيعطي للناس «الرخصة» المناسبة والشرعية حتى يقضوا أمورهم باطمئنان ويقين. قال أحد الأصدقاء مسترسلا مجموعة من الأمثلة المختلفة عن شخصيات «مؤثرة» في حياته ولعل أبلغها أن الكهربائي الذي يشرف على إصلاح مكيفاته في فصل الصيف الحار هو أكثر الشخصيات المؤثرة في حياته وأن السائق الذي يوصل أسرته ما بين زوجته وما بين والدته وأولاده هو الشخصية الأكثر تأثيرا لهم، فالموضوع رغم كونه يبدو طريفا جدا وأقرب إلى السخرية ولكنه في منتهى الجدية والحقيقة. الإدراك لمعنى التأثير والمبالغة فيه مسألة لم تعد تنطلي على أحد، والمجتمعات باتت قادرة على التمييز من وماذا الذي يؤثر فيها حقيقة وبالمعنى الأصيل للتأثير. لم يعد اليوم بإمكان أن يرى أي أحد أن لديه القدرة على التأثير «العام» فاليوم قدرة التأثير باتت مجزأة نظير تفتيت انتباه المتلقي ما بين أجهزة جوالات ذكية تعمد على تلقي مئات المعلومات في الدقيقة يتبعها مذياع وتلفاز وجهاز حاسب آلي، تدفق من الشلالات المعلوماتية تغطي وتغمر العقول البشرية وبالتالي لا يمكن أن يدعي واحد أن لديه مساحة التأثير الكلية بعد الآن. التأثير بات نتاجا «تراكميا» و«جمعيا» وليس فرديا ومحددا ولكنه أيضا خلاصة التغيير الحاصل في طريقة استيعاب الفرد والمجتمعات للمعلومة والإحصاءات بعد عقود من تلقيها بأسلوب ترتبي ونمطي. قوائم الشخصيات الأكثر تأثيرا ليست فقط خاطئة ولكنها إلى حد ما «مهضومة» لأنها أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها بعيدة تماما عن الواقع. فالتأثير نفسه تغير تعريفه.