بين حالتي تونس والخليج!

TT

لو تخيلت مسودة لمذكرة تقدم من البيروقراطية الخليجية إلى القمة التشاورية الخليجية التي تعقد بعد أسابيع في الرياض، لما خرجت كثيرا عن أفكار هذا المقال. لم أعن في العنوان نقصا في أهمية تونس، تصغيرا لتونس البلد والشعب، ولكن الإشارة هنا للمقارنة، أن أي تطورات سياسية واجتماعية، في بلد مثل تونس، بأي اتجاه ذهبت، تاريخيا، لا تؤثر في المنظومة العربية. مثلها كمثل كوبا التي تحولت إلى الشيوعية وهي في حلق الولايات المتحدة، فلم تزدها أو تنقصها الكثير، أما محاولة التحول في سبعينات القرن الماضي إلى الشيوعية في بلاد مثل تشيلي الكبيرة والغنية والمؤثرة، فقد استفز انعطافها إلى اليسار الماكينة السياسية والعسكرية الأميركية حتى الإطاحة بسلفادور اللندي الذي انتحر في قصر الرئاسة عام 1973، بسبب أهمية تشيلي في محيطها الأميركي اللاتيني.

تلك المقارنة لتوضيح ما أردت الإشارة إليه، فهناك بلاد تؤثر في محيطها بشكل عميق وفعال، وأحداثها تفيض على الجوار، وأخرى تكون أحداثها داخلية محدودة مهما بلغت من درجة التغيير.

بعد هذا الاستهلال وفي الإطار العربي رغم كل التغيرات التي تموج بها المنطقة العربية، الأحداث المصرية بمثابة القلب من الجسم لكل ما سوف يحدث في المستقبل في المحيط العربي، وهي أحداث ليست قريبة إلى الاستقرار، وما تشهده من معالجات هي بمثابة مسكنات، وليست دواء ناجعا، فقد بدأ عدد الضحايا في شوارع مصر في الارتفاع، وتصاعد القلق.

أرى أن الملف الأساسي في القمة التشاورية كتب عليه من الخارج «تأثير الأحداث المحيطة على دول الخليج»، ويتعرض للتغيرات العميقة في المنطقة والتي لا تنبئ بنهايات قريبة أو حتى سعيدة، على الاستقرار الخليجي. سوريا تكاد أن تتشظى بين قوى متعددة ومتصارعة واقتصاد يتدهور وتصفيات عرقية وحرب طائفية وتجويع وإبادة وملايين اللاجئين. العراق لا يكاد يستقر على حال، فقتلى العراق يصيح بهم نائح كل مساء وهم في تزايد، وليس هناك موعد قريب لوقف تدفق الدم العراقي. حزب الله يدخل مرحلة الخطوط الحمراء محليا ودوليا، وتضيق عليه المسالك ويتم محاصرته، وقد يلجأ إلى أفعال لها علاقة بضيق الصدر والخوف على النفس، كل ذلك له صدى في دول الخليج ولكن قد لا يكون له نفس تأثير ما يحدث في مصر.

ما يحدث في مصر مهم وتاريخي وهو الذي سوف يحدد توجهات المنطقة إلى عشرات السنين القادمة، أما من حيث تأثيره على الخليج، فهو متوقع.

دول الخليج حاضنة الطاقة الدولية والاستقرار حتى الآن، مهددة بما يجري حولها، والسؤال الذي أراه مركزيا في قمة التشاور: هل سوف تترك دول الخليج تحظى بالاستقرار في هذا الجو العاصف من الاضطراب؟ الشواهد كثيرة، تجعل من دول الخليج جاذبة، أرادت أو لم ترد، لبعض تأثيرات تلك العاصفة التي تزمجر حولها.

بداية ما يحدث غير توجهات بعض الدول وبسرعة، دولة مركزية مثل تركيا أعادت تحديد موقفها، لأسباب لها علاقة بتأثير ما يحدث عليها، وهي التي رحبت بالتغيرات الحاصلة في بدايتها، بدأت تقف ضد بعض تحولاتها، سواء في سوريا القريبة من خلال معارضة بعض قوى المقاومة المتشددة آيديولوجيا، أو في الجوار من خلال معارضة الإطاحة بمحمد مرسي في مصر، مما عرض العلاقات التركية ليس المصرية فقط، بل وبعض العربية إلى الاهتزاز العنيف.

ما يجعل دول الخليج عرضة للتأثيرات القادمة من تداعيات ربيع العرب كثير، منه أن هناك جاليات عربية، مصرية وسورية ولبنانية، أي من تلك الدول التي تمر بمنخفضات سياسية، لهم مواقف مما يحدث في بلدانهم، بعضهم في القطاع المصري مناصر لمرسي وبعضهم معارض، والعكس صحيح، وكذلك السوريون المناصرون للنظام والمعادون له موجودون على أرض الخليج، وما قد يحدث في سوريا يثير تلك الشريحة وله تأثير على الواقع الخليجي. جلب تلك الخلافات بين شرائح دول الاضطراب إلى أماكن هجرتهم في الخليج يسبب لغطا سياسيا قد يكبر، إذا أضفنا أن بعض أهل الخليج ينظرون إلى ما يحدث في سوريا على أنه حرب طائفية ليست غامضة المعالم، ويزيد نار الاشتعال من خلال مساهمة فعالة في النشاط المؤيد أو المعارض لتلك الأطراف. وضع حزب الله على قائمة الإرهاب الخليجي ثم الدولي يرسل القشعريرة لدى طائفة لبنانية واسعة، قد يكون بعضها متورطا في نشاط الحزب أو متعاطفا أو حتى مشتبها فيه، مما قد يتورط فيه الجوار الإيراني الذي يرى وضع حزب الله على قائمة الإرهاب ومحاولة تجفيف منابعه الخليجية في المناصرة والدعم المادي، تهديدا لمصالح استقرت للدولة الإيرانية، وهي بالتالي تملك بعض الأدوات التي يمكن تحريكها استفادة من وضع اجتماعي اقتصادي قد يثار في قطاعات في النسيج الخليجي، تنفخ في صيحة المحرومين.

لدي مؤشر مهم يدفع للتفكير أن الاضطراب يمكن أن يصدر إلى الخليج، من خلال ملاحظة أشكال الاحتدام في الرأي في وسائل الاتصال الاجتماعي. أي متابع سوف يرى أن أهل الخليج أو بالتحديد بعض نخبهم قد انقسموا بين القائل إن ما يحدث في مصر هو انقلاب على الشرعية اتباعا لإخوانهم في الداخل المصري، إلى درجة أن وضعت المعونات التي قدمت من دول الخليج لمصر موضع التساؤل، وبعضهم يؤيد حركة التصحيح التي تمت، وبين المؤيد والمعارض تتكاثر الفتوى الدينية، كمثل ما صدر عن الشيخ القرضاوي أو الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، وللاثنين مريدون محليون.

صحيح أن الغائب في كثير من هذه المناقشات هو العقل، فالكل متمترس وراء ما يراه من حق بين، وباطل بين، إلا أن التوقع أن يفيض ذلك النقاش إلى الساحة المحلية الخليجية ويهز الأمن الداخلي ويشتت النسيج الاجتماعي.

الأسئلة حول هذا الموضوع مثيرة للاهتمام، وهي: هل هناك دوائر في الخليج تتوجس خيفة من الانزلاق نحو صراع ما في الخليج، أم أن كثيرين يرون أن الشرر المتطاير من الجوار ما يلبث أن ينطفئ عندما يعبر الصحراء؟ هنا لا نجد إجابة واضحة، من يريد أن يغطي الحقائق يرى أن الأمور هي «حولنا وليست عندنا»، وآخرون يرون أن فكرة الاستثناء هي وهم وجب أن تزول الغشاوة عنه، وأن يبدأ أبناء الخليج في تحصين مجتمعاتهم، على غير ما عهدوا من التحصين التقليدي، وهو الاسترضاء المادي قصير الأجل أو الإعلام المفرغ من محتواه.. في كل شيء تقريبا الجزاء من جنس العمل إلا في السياسة التي قد يأتي الجزاء من مكان لم يفكر فيه أو تتاح دراسته، وما يحدث أو سوف يحدث في البحرين مثلا، وهي الحديقة الخلفية لدول الخليج، في الأسابيع والشهور القادمة، يدق جرس الإنذار عاليا وربما متأخرا، أن أفيقوا فوهم الاستقرار يجب إعادة النظر فيه ويجب تدبير استراتيجيات لها قدرة الفعل الإيجابي.

ذاك ملخص لما أتمنى أن يوضع مثله على طاولة اللقاء الاستشاري القادم.

آخر الكلام:

بجانب الحروب التي تكاد أن تصبح أهلية في الجوار، هناك حروب ضروسة تخاض في الإعلام العربي إلى درجة دس الكثير من الشرائط المفبركة للعامة من الجمهور الذي غالبه مصدق لما يرى أو هو بطبعه يميل إلى الشك، ومن جديد يلعب البعض على جهل الغالبية لتشكيل رأي عام مناصر لقضيته.