الهدنة المحرمة في رمضان الرحمة

TT

يستغرب المرء كثير الاستغراب كيف أن سوريا النظام وسوريا المنتفضة على النظام لم يحترما مناسبة شهر الصوم المبارك فيلجم كل طرف غضبه ويضبط مفردات لسانه ويخلد إلى لحظات من التأمل يسأل نفسه لماذا هذا الذي كان في المستطاع علاجه بالروية والحنكة والحكمة انتهى إلى أبشع منازلة في تاريخ المنطقة يدمر فيها النظام ما أراد تدميره وما استطاعت صواريخ الجيش الذي تبعثر تقويضه أو إحراقه. ويزداد الاستغراب عندما تكون أصوات مدافع التدمير المتبادلة هي البديل لمدافع الإفطار وتكون صرخات الأطفال إلى جانب ولولات النساء وأنين المصابين الذين تنزف دماؤهم هي السائدة في أكثرية مدن سوريا وبلداتها، بدءا من دمشق وحتى الحدود مع الأردن ولبنان والعراق وتركيا وفلسطين، بدل أن تكون الابتهالات واللقاءات العائلية إلى الموائد الرمضانية هي الحاصلة في هذا الشهر المبارك.

كما يستغرب المرء كثير الاستغراب كيف أن طرفي المنازلة لم يقررا اتخاذ الخطوة المألوفة والمحترمة في أزمان الاحترابات حتى بين الوطن المعتدى عليه والأجنبي الذي جاء يعتدي ونعني بها الاتفاق على أيام هدنة يلملم فيها كل طرف جراح المجروحين ويعيد ترتيب خطط الاقتتال. ولا يعني الالتزام بالهدنة أن الأمور سويت، ولكن على الأقل تنطبق عليها مقولة «استراحة المحارب». ويزداد الاستغراب عندما نرى أن الذي يدعو الأشقاء المتقاتلين إلى هدنة خلال شهر الصوم هما المسيحيان المشكورة دعوتهما الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون ووزير خارجية فرنسا لوران فابيوس، وهما مسؤولان دوليان غير مسلمين، في حين أن طرفي الاقتتال في سوريا مسلمان، وهناك في الكتاب وفي الأحاديث النبوية وفي تراثيات الخلفاء الكثير من خير الكلام الذي يوصي بالتراحم وبالتعقل والتهادن، لكن الطرفين المتقاتلين على مدار الساعة للسنة الثالثة على التوالي تناسيا خير الكلام هذا وأمعنا اقتتالا، بل إن صواريخ الشر أصابت مآذن ودمرت مراقد ومساجد. كما أن الأشرار خطفوا رجال دين. وهكذا نرى أن المنتفضين على النظام الظالم استبدلوا «لا حول ولا قوة إلا بالله» تدليلا على تأثرهم بالذي أصابهم، بعبارات يستغرب المرء كيف يمكن صدورها عن مسلم في ساعة الشدة. ومن هذه العبارات على سبيل المثال لا الحصر الإكثار من التكبير عندما تصيب قذيفة انطلقت من الطيف المنتفض دبابة أو مصفحة أو آلية أو طائرة ودمرتها. وبقدر ما أن المرء يستفظع إرسال النظام طائرة ترمي براميل متفجرات على مجمعات سكنية وأسواق ومخابز أو تقصف مواقع في مدينة أو دبابة تدك بنيانا أو يطلق صاروخا على قلعة أثرية أو مسجد أو على حي، فإنه يحزن عندما يرى صورة وصوتا مقاتلين منتفضين يرددون وبكثير من الابتهاج عبارة «الله أكبر» عدة مرات لأنهم دمروا هذه الدبابة أو تلك الآلية أو إنهم أصابوا الطوافة التي هوت محترقة بمن فيها من جنود هم سوريون ومسلمون، أي من أبناء الوطن. وكأنما ليس هذا الفعل من الطرفين هو تدمير للقدرات وللذات، أو كأنما لغة التعامل بين عدوين هي تلك التي باتت لغة التعامل بين الأشقاء.

ولو أن الذي يحدث فنراه ونسمعه لا يتم بثه عبر الفضائيات لكان من المستبعد تصديقه. لكن معظم وقائع المواجهة باتت بفضل الفضائيات مثل مسلسل متعدد الحلقات ومثل أفلام الرعب مع ملاحظة أن أبناء الأمتين لم يعودوا كما الحال من قبل على تأثرهم من الذي يحدث وذلك لاستنتاج توصلوا إليه، وهو أن طرفي المحنة السورية لا يريدان لها أن تنتهي بدليل أنهما حتى لا تصدر من جانبهما وقفة احترام للشهر الفضيل، فلا صوم لبضعة أيام عن المواجهة التي تدمر والكلام الذي يجنن، وكأنهما بهذا التصرف يحققان للأجنبي أغراضه التي تتلخص في أن تطويل المواجهة الدائرة في سوريا أفضل من تعطيلها، وإلا فما معنى كثرة التصريحات من مسؤولين مدنيين وعسكريين في بعض الدول الكبرى تبشر بطول المواجهة. وهنا يصح الافتراض بأن هذه الدول متفاهمة ضمنا وإن كان لا يتم الإفصاح عن ذلك أن عدم الحسم وإبقاء الوضع على ما هو عليه هو الخيار الأفضل لمن يلعب ورقة النظام، وهو هنا روسيا بوتين، ولمن يتلاعب بالطيف السوري المنتفض، وهو هنا اللوبي الأميركي – الأوروبي، ذلك أن كلا منهما في نهاية الأمر وعندما يتهالك الطرفان المتعاركان سيحصل على ما يتطلع إليه من موقع نفوذ. وفي هذه الحال سيكون مجتمع اللاجئين السوريين بات مثل مجتمع اللاجئين الفلسطينيين، وتكون سوريا باتت دولة تلاشت قدراتها كرقم صعب تفرض الشروط. وعندما نرى وزير خارجية الولايات المتحدة يزور يوم الخميس 18 يوليو (تموز) 2013 مخيم الزعتري في الأردن الذي يؤوي نحو مائتي ألف لاجئ سوري يقاسون أشد أنواع المعاناة ونرى قبل ذلك عددا من المسؤولين الأوروبيين يتفقدون مخيمات مماثلة في تركيا، ويتجه لبنان كحل لإيواء اللاجئين السوريين الذين يتدفقون يوميا إلى لبنان ولا قدرة له على تلبية الحد الأدنى من متطلبات معيشتهم إلى إنشاء مخيم لهم وهو الممتلئ بمخيمات للاجئين الفلسطينيين الموزعين على مناطق فيه منذ أكثر من نصف قرن.. إننا عندما نرى هذه المشاهد نستنتج أن خارطة الطريق الدولية لمعالجة المحنة السورية هي تدشين ظاهرة «اللاجئين السوريين» تكون توأم ظاهرة «اللاجئين الفلسطينيين»، وهذا في حد ذاته مؤشر إلى أن الدول الكبرى والفاعلة غير المتفاهمة حتى بعد أكثر من نصف قرن على حل للمحنة الفلسطينية ربما تزرع غرسة عدم التفاهم على حل للمحنة السورية. وعندما تكون الحال على هذا النحو يصبح الاقتتال المحلل في نظر طرفي الاقتتال وتصبح الهدنة المحرمة حتى في رمضان الرحمة في نظر الطرفين أيضا موضع ارتياح تلك الدول لها، ومعها بلا شك إسرائيل التي يحز في نفوسنا أن جرحى من المنازلة السورية - السورية وجدوا أنفسهم يعالجون في مستشفياتها القريبة من الجولان الذي ينتظر للسنة الأربعين على التوالي من سورياه تحريرا له عوض أحاديث الممانعة وجولات الاقتتال الأهلي الدائرة منذ ثلاث سنوات.

ما يقال عن المحنة السورية يقال عن أختها بالبشاعة المحنة المصرية في التعامل بين طيفين مسلمين يستعذبان التعارك حتى في شهر الرحمة إلا إذا استطاع شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، العائد في يوم الذكرى الواحدة والستين لثورة 23 يوليو من اعتكاف إيماني اضطراري احتجاجا على ما يجري بين أبناء الوطن الواحد والدين الواحد الذي حدد مصير المسلم يقاتل المسلم بأن كليهما في النار، تحقيق مصالحة وطنية تعيد إلى مصر رونقها واستقرارها ودورها، وربما تشكل المحاولة حافزا لطرفي الاقتتال السوري بأن يعقلا فلا يستمر جنون اقتتالهما على هذا النحو المخجل. لا حول ولا قوة إلا بالله.