لندن.. القاهرة.. وشرعية الاستقرار

TT

القصة الخبرية الأولى في صحافة العالم كانت مولد الأمير جورج ألكساندر لويس، الوريث الثالث ترتيبا لعرش المملكة المتحدة والكومنولث، في مهرجان بدأ قبل ثلاثة أسابيع بتدفق الكاميرات والصحافيين خارج مستشفى سانت ماري، متوقعين اتباع أبيه الأمير ويليام طريقا بدأته عمته آن، قبل 35 عاما، كسرا لتقليد الولادة في القصر، بوضع مولودها الأول، بيتر فيليبس، بعد 45 عاما فقط من اكتشاف ألكسندر فلمنج البنسلين في المستشفى نفسه.

لا يعود اهتمام العالم إلى شعبية الملكة إليزابيث الثانية الجارفة بقدر ما يعود لارتياح النفس البشرية غريزيا للاستقرار الذي يمثله النظام الملكي. أثبتت أحداث التاريخ، ما اكتشفته البديهية الطبيعية بأفضلية النظام الملكي الدستوري كمؤسسة توحيد وطوائف الشعب وجمع كلمتهم خاصة في الأمم العريقة في أصالتها.

أهم جدل قرأته لأفضلية الملكية على الجمهورية طرحه كبير دعاة الاشتراكية، جورج برنارد شو عام 1928 في مسرحيته «عربة عرض التفاح»the Apple Cart، بأدلة واقعية ومناقشة فلسفية تبلغ ذروة حكمتها في مبارزة منطقية بين رئيس وزراء جمهوري النزعة يسعى لإلغاء الملكية، وملك بريطانيا الذي يحذره من فخ تنصبه أميركا بطلب لانضمام للكومنولث للسيطرة، بقوتها وثرائها، على بريطانيا وشعوب التاج. فشل السياسي الجمهوري في العثور على سابقة واحدة تمكن فيها نظام جمهوري من جعل الشعب أسعد حالا وأفضل اقتصاديا واجتماعيا من الملكية التي انقلب عليها.

فالملكية للدولة - الأمة بمثابة العربة التي يثبتها الفكهاني ليرص فوقها هرم التفاح. في السوق. أي توتر يتدحرج معه التفاح وينسحق فيخرب بيت الفكهاني البائع ومعه مزارع التفاح وسلسلة طويلة من موفري الخدمات والنقل والتخزين وبالطبع العاملون في السوق ويحرم المستهلك من الفاكهة.

لا يوجد نموذج واحد لرئيس دولة منتخب - خاصة في النظام الجمهوري الذي يعطيه صلاحيات تخلط بين التشريع والجهاز التنفيذي ويستحيل محاسبته أو تغييره قبل موعد الانتخابات التالية - لم يلجأ لاستمالة عواطف الناخب مؤقتا بإجراءات (يعرفها الصحافيون برشوة الانتخابات) كحوافز مادية، وعلاوات ودعم للسلع، وخفض سعر الفائدة، وغيرها بما لا يناسب التوازن الاقتصادي المتاح؛ وبعد الانتخابات لا يجد (أو منافسه إذا فاز عليه) في الخزانة ما يكفي لتعويض خسائر الإجراءات فتضطر البلاد للاستدانة أو يخفض سعر العملة، أو ترتفع أسعار فائدة الإقراض مما يعرقل الاستثمار وغيرها من أضرار تجاهل الساسة للقواعد الأساسية للاقتصاد.

الملك كرأس الدولة لا يواجه مأزق الانتخابات. الملكية هي الاستقرار بعينه ومعروف مسبقا من سيخلف الملك عندما يجاور ربه. بريطانيا، و16 بلدا في الكومنولث تعرف اليوم من هو رئيس الدولة حتى القرن القادم؛ تشارلز الثالث، وليطيل الله في عمر الملكة إليزابيث ويمنحها وافر الصحة، ويخلفه ويليام الرابع، فجورج السابع (اللهم إلا إذا اختار ألكساندر الأول اسم التتويج).

ولي العهد، يتم إعداده لمسؤولية رئاسة الدولة، كمهمة جد خطيرة يوهب لها حياته كلها منذ مولده، بتثقيفه على يد الحكماء، كل بتخصصه، وتدريبه لسنوات طويلة على فنون السياسة والجيش وتحمل المشاق والتعامل مع كل فئات الشعب. الأمير تشارلز يتدرب على هذه المسؤولية لستة عقود (رئيس الوزراء عمره 46 عاما فقط) راقب أثناءها تعامل القصر مع 12 رئيس حكومة واستقبل، ممثلا للدولة مئات رؤساء دول أجنبية (تعامل هو مع تسعة رؤساء حكومة منذ حمل لقب أمير ويلز رسميا)؛ ولذا سيكون تشارلز الثالث أكثر حكمة ودراية بإدارة الدولة من أي رئيس حكومة أو وزير منتخب.

في الأسبوع نفسه تتوتر مصر والسبب انتخاب رئيس (في ظروف غير مستقرة) بلا خبرة أو إعداد لمسؤولية المنصب، وهلامية مؤسسة سياسية منحته صلاحيات غير محددة أتاحت له التلاعب - بلا خبرة قانونية - في مفاصل دستور مشروعيته محل نزاع قضائي، وحوله نقص التأهيل لأداة تنفيذ في يد المكتب السياسي (الإرشاد) لجماعة آيديولوجية التوجه، ورغم الشرعية التي تسربلها الانتخابات على المشهد، فلا يمكن لعقل قبول هذه المهزلة كديمقراطية قانونية مقارنة بديمقراطية النتائج لا الظواهر لرئيس دولة ملكية غير منتخب كبريطانيا.

في الملكية الدستورية تنفصل الدولة الثابتة عن الحكومة المتغيرة بالانتخاب، ولأنها حزبية فعادة ما تقترف أخطاء لانحياز الساسة لقاعدتهم الانتخابية فتخوض مواجهات برلمانية مع المعارضة فتضبطها توازنات checks and balances كبح جماح الأغلبية. أهم الضوابط جهاز الدولة civil servants من موظفين مستديمين عند التاج لا الحكومة، وليس بقدرة رئيسها تغييرهم.

عندما انتهت انتخابات 2010 ببرلمان معلق تصارع الساسة على منصب رئيس الحكومة لتشكيل ائتلاف، فكلفت الملكة سكرتيرها بصحبة الوزير الدائم لمجلس الوزراء (يتبع التاج كموظف دولة وليس ضمن وزراء الحكومة المنتخبة) يحملان أمرا ملكيا لزعماء الأحزاب بتشكيل حكومة، ولو بأقلية برلمانية قبل نهاية الأسبوع (مساء الجمعة). أدركت الملكة، بحكمة 60 عاما من رئاسة الدولة، ما فات الساسة بتصارعهم، بأن افتتاح البورصات العالمية في بداية الأسبوع وبريطانيا بلا حكومة سيضر باقتصاد البلاد.

هناك أطواق نجاة أخرى لإنقاذ الحكومة المنتخبة من أخطائها كمجلس اللوردات (الشيوخ) غير منتخب لكن يضم حكماء الأمة في كافة المجالات، وأيضا الصحافة المستقلة (دخلها من التوزيع لا الأحزاب) تقف بالمرصاد للجميع.

بالمقابل نتساءل حول عجز حركة إعادة الشرعية الملكية المصرية عن حشد مؤيدين بأرقام 25 يناير (كانون الثاني) ولا نقول 30 يونيو (حزيران). فمن يتذكرون النظام البرلماني الدستوري لمملكة مصر والسودان في ظل دستور 1923. الذي لم يلغه قانونيا برلمان منتخب شرعيا، تجاوزا السبعين من العمر. والأفضل لمصر العودة للنظام البرلماني لا الجمهوري الحالي ورئيسه تثير صلاحياته غيرة فرعون.

الأفضل رئيس دولة منتخب مباشرة إذا أرادوا، يكون محايدا فوق خلافات الأحزاب، بصلاحيات محدودة هدفها توحيد الأمة لا التفريق، ويمثل الدولة عالميا، وبلا صلاحية تشريع لأن مصدره الأمة عبر البرلمان أو سلطة على الحكومة التنفيذية فرئيسها ووزراؤها، بلا استثناء، منتخبون برلمانيا لا معينون كموظفين، لمحاسبتهم أمام نواب الشعب؛ فعيب ألا تعود مصر لاستقرار النظام البرلماني بفصل الدولة كحارس التشريع ومؤسسات الاستقرار، عن الحكومة التنفيذية.