العصيان المدني ومصاعبه

TT

اللاعنف عند غاندي عملية أخلاقية. إنه سلاح الشجعان، وليس سلاح الجبناء. ظهر ذلك عندما اندلعت الحرب العظمى. دعا زعماء الهند لاستغلال الفرصة لتوجيه ضربة قاضية للاستعمار البريطاني. عارض ذلك، واعتبر ركل رجل ساقط على الأرض عملية لا أخلاقية. ناشد قومه دعم الإنجليز في حربهم، وكان بذلك قد قامر على الحصان الفائز، وليس على الحصان الخاسر مثلنا؛ ألمانيا ثم روسيا. نال بذلك تقديرا كبيرا بين الإنجليز، بل والعالم كله. أثبت مصداقية ما يقول وشرف الكلمة والنية الحسنة.

ما أن انتهت الحرب، حتى بادر بمطالبة الإنجليز بالاستقلال. وعندما ماطلوا في ذلك، دعا الهند للعصيان المدني. ولكن الشعب أساء التصرف، بتحويل العملية إلى نشاط غوغائي، تمثل في الهجوم على المخازن ونهبها وتدمير الممتلكات، فسارع إلى وقف العملية. اعترف بالخطأ قائلا إن الهنود لم يبلغوا بعد الدرجة الكافية من النضج للاضطلاع بالعصيان المدني السلمي والشرعي.

كثيرا ما نسمع في عالمنا العربي عن إعلان العصيان المدني أو التهديد به، دون أي نتيجة عملية. إنه عملية خطيرة ومعقدة، فهو أولا يتطلب استعدادا ودعما قويا جدا من الشعب ونضجا كافيا. ويستهدف تعطيل الدولة كليا بشتى أجهزتها؛ الخدمات الصحية والاجتماعية والمؤسسات التجارية والصناعية والتعليمية وحركة النقل وصيانة الأمن.. إلخ. ولكن ماذا تعمل إذا أصيب شخص بنوبة قلبية، أو شب الحريق في بيتك، أو كانت لك بضاعة تالفة في الجمرك؟ من المعتاد لدعاة العصيان المدني أن يتركوا أجهزة طوارئ تقوم بالمهمات الخطرة الطارئة ويشكلوا لجان طوارئ تسمح أو تمنع هذا العمل؛ هل هذا المريض يحتاج لمعالجة فورية حقا، وهكذا. فضلا عن ذلك، يسبب العصيان المدني أذى كبيرا في الاقتصاد الوطني، ولا سيما إذا استغرق مدة طويلة.

فشلت العملية في الهند، واضطر غاندي للجوء إلى وسائل سلمية أخرى، وعلى رأسها المفاوضات وإثارة الرأي العام العالمي ومقاطعة البضائع البريطانية. دعاه الإنجليز إلى لندن للتفاوض، فجاءهم ملتفا بقماشه الكادي ومغزله وعنزته. لم يسمع العالم عن زائر يزور بريطانيا ويحظى بمثل ما حظي به غاندي عند مروره في شوارع لندن. اكتظت أرصفة الطرق بألوف المشاهدين يهتفون باسمه، ويغرقونه بالورد وأزهار القرنفل تتساقط عليه من كل جانب. «اختضت» الحكومة البريطانية العمالية برئاسة ماكدونالد بما رأوا؛ الشعب البريطاني مع غاندي ومع استقلال الهند. إنه المهاتما، البارع في فن العلاقات العامة والدعاية، ويعرف كيف تعمل الديمقراطية. استغل هذه الشعبية العالمية خير استغلال بصومه حتى الموت، كلما انسدت بوجهه السبل، فيمسك العالم أنفاسه قلقا عليه.

أخذوه لمعامل النسيج في لانكشاير. وكان ذلك أثناء الأزمة الاقتصادية العالمية التي أدت لتعطيل هذه المعامل. شكا له رئيس النقابات ما يعانيه عمال النسيج، وارتجاه أن يرفع الحظر في الهند على المنسوجات البريطانية، فهناك 50 ألف عامل يعيشون عليها. أجابه غاندي: «وأنا عندي 300 مليون هندي يعانون من الفقر!».

وما أن قال ذلك حتى احتلت كلماته في اليوم التالي صدارة الصحف البريطانية.