تركيا وضرورة المصالحة مع مصر

TT

استحسنت الدول العربية بصفة عامة ودول الخليج بصفة خاصة عودة تركيا إلى محيطها العربي والإسلامي، بعد أن ظلت لعقود متجهة غربا غير مكترثة بالمشرق، حيث بدأت تركيا في السنوات الأخيرة محاولات جادة ومهمة لإعادة بناء الثقة مع جيرانها العرب بعد عقود أو ربما قرون من انعدام هذه الثقة لأسباب معروفة.

وتبنت تركيا سياسة «تصفير المشاكل» مع جيرانها بصفة عامة، وكان هذا توجها طيبا أسعد كل دول الجوار التركي، لكن عودة تركيا المعاصرة إلى محيطها العربي والإسلامي بدأت تتعثر الآن بسبب موقف أنقرة من التحولات التي تشهدها مصر، حيث تتمسك تركيا أو الحكومة التركية بزعامة رئيس وزرائها رجب طيب أردوغان بنظام الإخوان المسلمين الذي تم عزله تحت تأثير ثورة شعبية عارمة دعمتها القوات المسلحة في 30 يونيو (حزيران) الماضي، وما تبع من ذلك من تطورات على الأرض أقرها الشعب المصري واعترفت بها أغلبية دول العالم، بما فيها الدول العربية والقوى العظمى، وقبل كل ذلك هذا شأن مصري داخلي بحت لا يحق للدول الأخرى أن تتدخل فيه بأي صورة من الصور، كما يجب على دول المنطقة ومن بينها تركيا أن تتعامل مع مصر الدولة والشعب وليس مع جماعة دينية أو سياسية أو حزب سياسي معين مهما كانت قريبة منها أو بعيدة عنها، وهذا ما تبعته تركيا نفسها في تعاملها مع مصر طيلة السنوات الماضية حيث كانت تربطها علاقات طيبة بالحكومات السابقة منذ عام 1952 وحتى عام 2011، ولكن الموقف الأخير لأنقرة والمتشدد في تمسكها بجماعة الإخوان المسلمين في مصر قد يعيد أو يرسخ المخاوف من سياسات وتوجهات تركيا تجاه الدول العربية خاصة حول ما يقال عن رغبة تركيا في عودة الدولة العثمانية تحت ستار دولة الخلافة التي تتبناها جماعة الإخوان المسلمين وتجد رغبة أو هوى تركيا، وهذا خطأ استراتيجي قد يكلف تركيا ابتعاد الشرق العربي والإسلامي عنها، خاصة أن تصريحات قادة أتراك لا تخفي هذا التوجه سواء بشكل مقصود أو في زلات لسان لكبار المسؤولين، لكنها تسجل مواقف على النظام الإسلامي الحاكم في أنقرة.

وكل التحليلات ترجع الموقف التركي من نتائج ثورة 30 يونيو في مصر، وما ترتب عليها من إبعاد جماعة الإخوان المسلمين عن السلطة وعزل الدكتور محمد مرسي من منصبه، إلى سببين هما أن النظام التركي الحالي له علاقة بـ«الإخوان المسلمين» ومن ثم يرى أنه لا بديل عن الوقوف معها ودعمها حتى لا تنهار أنظمة الإسلام السياسي الأخرى الموجودة في منطقة الشرق الأوسط ومن بينها النظام التركي، والسبب الثاني أن أنقرة تخشى تكرار السيناريو المصري خاصة أن أنقرة تعاني من حالة حراك داخلي وهي المعروفة بأحداث ميدان تقسيم، ولذلك عدلت أنقرة المادة 35 في الدستور التركي لقطع الطريق أمام الجيش التركي للتدخل في السياسة تحسبا لدور ما لعودة الجيش إلى الحكم بعد نجاح التجربة المصرية، خاصة أن للجيش التركي تاريخا طويلا في التعاطي السياسي التركي ونفذ عدة انقلابات عسكرية، وإن كان هناك اختلاف بين الحالتين فالجيش المصري لم ينفذ انقلابا على النظام الحاكم بل ساند وأيد رغبة شعبية عكستها الملايين الذين احتشدوا، وما زالوا يحتشدون، في ميادين وشوارع القاهرة والمحافظات تأييدا للجيش.

ورغم الاختلاف المصري - التركي, والتصعيد الإعلامي، واستضافة تركيا اجتماعات الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين المؤيد لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، فإنه من الثابت أن هناك ثلاث دول إسلامية سنية مهمة في المنطقة يعد تقاربها ضرورة حتمية في الوقت الراهن لاستقرار منطقة الشرق الأوسط برمتها، وهي المملكة العربية السعودية ومصر وتركيا، ولذلك أرى أنه يجب أن تكون هناك مبادرة سعودية - خليجية - تركية للدفع إلى مصالحة مصرية شاملة، وإنهاء حالة العنف والاحتشاد في مصر، وأن تكون هذه المبادرة واقعية تأخذ في اعتباراتها المتغيرات المصرية واختيارات الشعب المصري الذي رفض حكم الإخوان بعد أن تعثرت مصر خلال العام الماضي وتأثرت اقتصاديا وأمنيا وسياسيا، على أن تعمل هذه المبادرة أيضا لرأب الصدع التركي - المصري الذي تبعه عدم وفاق تركي – عربي، لا سيما أن هناك دولا إقليمية بدأت تستفيد من تباعد هذه القوى الإقليمية المؤثرة أو اختلافها خاصة بين تركيا ومصر وما تبع ذلك، وفي مقدمة هذه الدول المستفيدة تأتي إسرائيل التي أخذت تسارع في وتيرة بناء المستوطنات، بل تقوم حاليا بالترتيب لطرد المقدسيين من مدينة القدس عبر منحهم إقامات منتهية المدة، كما أن هناك دولا أخرى أبدت سعادتها بهذا التباعد عبر تصريحات تحمل شيئا من التشفي، وتمثلها إيران التي لا تخفي السعادة بهذا التباعد وتسعى لتوسيع الشقة باعتبارها المستفيد الأكبر من تباعد القوى الإسلامية السنية الكبرى.

ولذلك أرى أنه يجب الإسراع في التقدم بمبادرة خليجية - تركية للم الشمل المصري وجمع الفرقاء وحقن الدماء والحفاظ على استقرار مصر وأمنها وعودتها بكامل قوتها إلى العمل المشترك مع أشقائها وجيرانها لخدمة القضايا العليا للأمتين العربية والإسلامية، ولقطع الطريق أمام المتربصين، على أن تتفق الرياض وأنقرة والقاهرة على بنود هذه المبادرة، وعلى أن تتضمن دعم جهود المصالحة المصرية التي تتبناها الدولة المصرية ويقودها الرئيس المؤقت عدلي منصور وتجد مساندة ودعما من الأزهر والكثير من القوى المدنية.

أخيرا يجب أن تدرك أنقرة أن ما ينتظر العلاقات التركية - العربية أهم بكثير من عوامل الاختلاف التي طرأت مؤخرا بسبب الأحداث المصرية، خاصة بعد أن قطعت هذه العلاقات شوطا كبيرا على طريق التنسيق السياسي والأمني والتعاون الاقتصادي والتبادل التجاري، حيث بلغ حجم هذا التبادل في عام 2012 نحو 50 مليار دولار، بعد أن تضاعفت الصادرات التركية إلى الدول العربية 11 مرة في السنوات الخمس الأخيرة، كما تضاعفت وارداتها 12 مرة في الفترة ذاتها.

* رئيس مركز الخليج للأبحاث