بأعداد كبيرة

TT

أفكر في أن مصر تدفع غاليا هذه الأيام، ثمن الجهل الذي سمحت به لعقود طويلة، لم نأخذ الأمية والأخطار الناتجة عنها على محمل الجد، بل ربما رأينا فيها عنصرا مكونا أو مكملا للمجتمعات لا غنى عنه، أو عنصرا شريرا من مكونات الحياة اليومية مثل الحوادث والأمراض، غير أننا بدأنا ندرك الآن - وأرجو ألا يكون الوقت قد فات - أن الجهل جريمة بما يشكله من خطر على المجتمعات البشرية.

لقد شكلت الأمية قاعدة قوية في مصر كانت أشبه ببحيرة تتصاعد منها أبخرة الجهل السامة على عقول بقية الناس لتصيبهم بأميات أخرى تدفعهم إلى الوراء مع كل طلعة نهار. ومع الجهل يأتي التخلف والجريمة، في كل لحظة على مدى عقود طويلة وفي غياب نظام جاد للتعليم، تسقط شرائح من البشر إلى هوة الفقر والجهل والجريمة وهي جميعا أعراض لمرض واحد، لتزداد البحيرة سمية، وليكون المستقبل الوحيد للناس هو أن يكونوا قتلى ومقتولين.

أرى في اعتصام رابعة العدوية والنهضة نموذجا واضحا لما يمكن أن يفعله الجهل والحاجة بالناس. وأفكر في أن الخطر الذي يتهددهم ليس هو الاستخدام المبالغ فيه من الشرطة أو الجيش يا دكتور برادعي، بل التدافع «stampede». لقد قدمنا للعالم مفهوما جديدا لتعبير «أعداد كبيرة» حكاية الآلاف لم تعد مقنعة لنا، لقد دخلنا خانة الملايين بوصفها الطريقة الوحيدة للتعرف على الحقيقة، ولا بد أن ندفع ثمن ذلك.

المعتصمون في رابعة يزيد عددهم في كل يوم وسوف يكون من تبسيط الأمور، أن نراهم جميعا أعضاء في جماعة الإخوان المصرية. الواقع أنهم مواطنون تعساء يرغبون في البحث عن إثارة وتجديد في حياتهم البائسة، وأيضا الاستمتاع بالجانب الروحي في الحكاية، وهي أنهم مسلمون يدافعون عن الإسلام في مواجهة الكفار وأجهزة الدولة الكافرة.

لا حد للاختراعات التي يمكن أن يقدمها الأذكياء والجهلة أيضا، لم تعد رابعة مجرد مكان سكنى، هي ساحة لتقديم الشهداء. حتى وصل الأمر إلى أن رأينا أطفالا يحملون الأكفان البيضاء مع لافتات صغيرة تقول إنهم مشاريع شهداء. عند حدوث اقتحام للميدان بأقل قوة يتصورها أحد سيكون هؤلاء الأطفال هم أول القتلى. مرة أخرى يا دكتور برادعي.. مجرد جمع الناس بهذه الأعداد في مكان وتغذيتهم الدائمة بالكراهية، والرغبة في الموت، هو ما يمثل في حقيقة الأمر الاستخدام المفرط للقوة، بل الاستخدام الشرير لها.

هذه معركة من معارك المصريين، يسعدنا أنك انضممت إليها، وأنت شخص نظيف يأبى تلويث نفسه أو أن يلوثه أحد، غير أن المعركة التي فرضتها جماعة الإخوان المصرية على الشعب المصري تحتم أن نفكر فقط في الانتصار فيها من أجل ألا يحدث المزيد من القتلى ومشاريع الشهداء، لذلك لا تشعر بالأسى للاستخدام المفرط للقوة الذي لم تمارسه الشرطة المصرية حتى الآن، بل قف معنا بصلابة ووضوح فلا بديل عن الانتصار في هذه المعركة.