مشكلات الحاسة الثانية

TT

الحاسة الثانية من حواسنا الخمس حاسة السمع التي تأتي بعد حاسة البصر في الأهمية. وتأتي بعدها لأنها ليست على نفس الدرجة من الضرورة. يعيش بعض الناس مرتاحين بفقدها. كان منهم أحد الأدباء التشيكيين. فقد السمع في صباه وعاش في صمم تام. ولكن الأطباء استطاعوا في كبره أن يعيدوا له حاسة السمع. تأسف كثيرا على ما فعلوه. قال لم أكن أتصور العالم يعج بكل هذه الضوضاء المزعجة والكلام الفارغ. كنت مرتاحا في طرشي، أقرأ وأكتب ولا أحد يكدر مزاجي ويقاطعني. والآن علي أن أتحمل كل هذا الضجيج والضوضاء.

أنا ورثت من والدي رحمه الله صمما جزئيا. كانت المرحومة والدتي تقول: أبوك يصبح أطرش عندما تطلب منه بعض الفلوس ويستعيد السمع بقوة عندما تأتيه بفلوس وتعدها له. وهي ملاحظة تشاركها فيها زوجتي الآن. تشكو من طرش أذني كلما جاءت تطلب فلوسا لفستان جديد.

ولكن هذا الصمم الجزئي أخذ يتفاقم أخيرا عندي. أخذ البعض يشكون من ذلك. فأنا أشاركهم المجلس والمناقشة دون أن أسمع ما يقولون، وخصوصا عندما يتكلمون سويا وهي عادة مألوفة لدينا. يقولون لماذا لا تستعمل واحدة من هذه السماعات الجديدة الرائعة، تضعها في أذنك فلا أحد يراها؟

رحت أفكر في الموضوع. ثم تذكرت قصة ذلك الأديب التشيكي الذي تأسف على استعادة حاسة السمع. رحت أقول لنفسي، معظم الناس أصبحوا يهذون بكلام فارغ؛ هذا يدافع عن «الإخوان المسلمين» والأحزاب الإسلامية، وآخر يتكلم عن الديمقراطية في العراق، وعن حل المشكلة الفلسطينية بشعار الدولتين، وطول الحجاب وعرضه ولونه، يكفرون ما لا يعجبهم ويحللون كل ما ينفعهم. أسأل نفسي لماذا أكلف روحي بسماع كل هذا الكلام الفارغ، بل وأدفع مبلغا لشراء سماعة تسمعني هذا الهراء؟ أسألكم بالله!

كتبت قبل أعوام في هذه الزاوية شاكيا من علة الشرود. كثيرا ما لاحظ البعض أنني أبدو شارد الفكر ولا أتابع ما يقولون أو يفعلون. المحاضر يتكلم وأنا أفكر بالأكل بعد المحاضرة وماذا سأختار منه؟ فكرت بهذه العلة التي تزعج من يكلمني ويعتبرها قلة أدب مني. لا أستمع إليه. حاولت معالجتها دون طائل. انتهيت بهذه النتيجة، وهي أن كل هذه الخطب والطروحات والمناقشات التي نسمعها من الفضائيات ووسائل الإعلام العربية علمتني الشرود وأفقدتني القدرة على التركيز والاستماع. فلماذا أتعب روحي وأرهق أذني بسماع هراء أجوف وكلام فارع؟ قلت لو كانت هناك عدالة في بلادنا لقاضيت الفضائيات العربية على إصابتي بعلة الشرود وفقدان القدرة على التركيز.

كل هذا الكذب والغش الذي ضخه الإسلامويون في أسماعنا علمني عدم الاستماع. ساعدني عليه الصمم الجزئي الذي ورثته شاكرا من والدي. والآن يلحون علي لشراء سماعة للأذنين. جاءتني سيدة مهزارة مزعجة. أخرجت السماعة من أذنها وقالت انظر. لا أحد يراها. صغيرة جدا. ابتع اثنتين منها لتسمع كلامنا بسهولة. ثم استرسلت واسترسلت بهذيانها.

أعوذ بالله! قلت لنفسي. اشتري سماعة لأسمعها وأستمع لأمثالها!