رحلة.. توتر!

TT

لا يمكن صناعة مديرين مهرة وقادة مميزين وبالتالي تحقيق النجاح المنشود في مجالات تبلغ المنافسة فيها مداها دونما إعطاء الأشخاص مساحة من الحرية في اتخاذ القرار وزرع الثقة فيهم لإنجاز ذلك بدلا من سلسلة لا تنتهي من المحظورات والعقوبات والنواهي تجعل من اتخاذ أي قرار مسألة وكأنها حياة أو موت أو أن صاحب القرار سيواجه مقصلة الموت.

عايشت تلك المسألة بشكل عملي منذ أيام قليلة وأنا أستعد للسفر على طائرة الخطوط السعودية من جدة إلى نيويورك وذلك برفقة أولادي ليعود إلي أحد الموظفين قائلا إنني لن أتمكن من اصطحاب ابنتي معي على الرحلة، قلت بدهشة لماذا؟ فقال اسم ابنتك فرح واسمها في الحجز سارة، طلبت أن يريني ذلك فوجدت أن الرجل لديه أوراق بطاقة الصعود باسم SARAH بحسب ما جاء على الحجز الإلكتروني بينما اسم ابنتي FARAH وطبعا الكل يعرف أن الخطأ وارد في اللفظ المنطوق بين حرفي الـF والـS باللغة الإنجليزية وأن اسم الأب والأسرة مطابق، وبدأ مهرجان تحويل المسؤولية من قسم إلى قسم ومن شخص إلى شخص إلى آخره، الوقت يمضي بسرعة وموعد إغلاق الرحلة يقترب، وبالتالي إقلاع الطائرة وأنا ذاهب في رحلة جادة ومهمة وموعد سنوي لمراجعة مع ابنتي الصغرى التي تعالج من مرض السرطان.

وطبعا لا يوجد أي شخص كان على استعداد للتفهم والاستماع لمنطق الحجة، وحولت إلى المدير المناوب الذي كان طبعا «يصلي» وأناب عنه شخص لا يستطيع أن يأخذ أي قرار بحجة أنه سكرتير إدخال بيانات «فقط»، كل شخص كان يجيبني بنفس الجملة «يا أخي معك كل الحق ولكنني لا أستطيع أن أعرض نفسي للعقوبة» ولم ينقذ الموقف إلا موظف شهم تحمل عناء المسألة، وأدخلني مع ابنتي بنفسه للطائرة مع أن «النظام الآلي» لم يستجب لمنطق الحجة المقدمة والاعتراف بأنه يوجد خطأ بشري وطبعا وصلت للولايات المتحدة الأميركية على نفس التذكرة وأكملت الرحلة إلى بوسطن على خطوط أخرى وشرحت لها أن هناك خطأ في هجاء الاسم ولفظه وأصدرت لي بطاقة صعود مع ابتسامة وترحيب دون تعقيد أو فلسفة.

الموظف الذي لا تتاح له مساحة التمكين من اتخاذ قرار لحل المشكلة فورا والتعامل مع التحدي الواقع أمامه من دون التشكيك وسوء الظن لن يكون لديه الروح ولا القناعة ولا الرغبة في إحداث الفارق في مهمته ووظيفته ولا الخروج عن الخط الضيق المرسوم له. ومع المقارنة مع ما تقدمه الشركات المنافسة في عالم الطيران اليوم تكون الفجوة ليست فقط كبيرة وضخمة ولكنها محزنة ومضحكة في آن واحد.

خطوط الطيران في جوانب الـHardware وهي المعنية بالأسطول الحديث من الطائرات الضخمة والمجهزة على أحدث طراز ولكنها فيها أيضا جوانب الـSoftware وهي تعني تجهيز الموظفين فيها على اتخاذ القرار وتحمل مسؤوليته ودعمهم وتشجيعهم وحثهم على ذلك وليس التشكيك والتحبيط فيهم لأن ذلك الأمر سيولد موظفا خائفا مترددا غير مبال ولا مهتم. والطيران هو أولا وأخيرا «خدمة» تقدم ولها «زبون» والسوق مفتوحة والعرض متاح للاختيار والمقارنة والمفاضلة، وحتما فرص النجاح ستقل - إن لم نقل ستختفي - في حال استمرار وجود نماذج سلبية وسيئة من هذا النوع.

ويبقى القول وإحقاقا للحق أن مقدمة الرحلة كانت كئيبة ومدعاة للتوتر نظرا للسلبية الهائلة التي كان عليها مجموعة من الموظفين غير القادرين على اتخاذ القرار وتحويل المسؤولية إلى آخرين بعيدا عنهم باستثناء موظف واحد شهم أخذ المسؤولية على عاتقه، إلا أن الرحلة نفسها كانت ممتازة مما يعني أن الخطوط بحاجة لتطوير الخدمات الأرضية كثيرا لتلاحق ما يحصل في الجو.