«غرافيتي» السياسة المصرية!

TT

لم يعد هناك حائط ولا جدار ولا سور ولا مساحة من أي نوع في قاهرة المعز من دون «شخبطة» من نوع أو آخر تأخذ شكل لوحات أحيانا، وفي معظم الأحيان كلمات وعبارات تعبر عن حال كاتبها فردا أو جماعة، وزمن الكتابة وتلك اللحظة الثورية العظمى التي ألهمت الكاتب، أو الكاتبة، فمن يدري؟ تمنيت كثيرا أن يقوم أحد الباحثين بتحليل هذا الكم الهائل من «الغرافيتي» العفوي كما فعل في زمن قديم أستاذنا الدكتور سيد عويس الذي فتح صندوق النذور لدى أولياء الله الصالحين لكي يحلل ما كتبه المصريون من أدعية وصلوات ورجاء للمولى عز وجل في علاه. أو عندما قام عالم اجتماع بتحليل تلك الكتابات التي يسطرها أهل مصر على عربات النقل من أدعية وهجاء وفخر وسخرية، عله يجد روح هذا الشعب أو يصل إلى بعض من أسراره. خزانة جديدة من المعرفة أخذت شكل العصر «الغرافيتي» ناسبت أياما ثورية، أو هكذا يقال عنها، وظلت على حالها منذ الخروج على الرئيس الأسبق حسني مبارك حتى الخروج على «الرئيس» السابق حسين طنطاوي وانتهاء بالخروج على الرئيس المعزول محمد مرسي. كل ذلك جرى في أقل من ثلاث سنوات، عامين ونصف جرى فيهما ما لم يحدث طوال أكثر من قرنين من ميلاد الدولة المصرية الحديثة.

أثناء الذهاب والإياب لاحظت الكلمات الكثيرة التي كان أولها أن «الشعب يريد إسقاط النظام»، فلا يحتاج الأمر ذكاء أن الإشارة هنا إلى نظام يوليو (تموز) 1952 التي بات معروفا بنظام مبارك بعد أن تخلى الناصريون عن النظام الذي ينتمون إليه. قد تغيرت الأمور على أية حال، فلن يخلو الأمر بعد ذلك من عبارة «آسفين يا ريس» أو «مبارك بريء» ويلاصقها «يسقط التوريث». ولكن الكلمات تتداخل بشدة، فسوف نجد من يقول «يسقط حكم العسكر»، و«يسقط المشير»، وبعد ذلك يكثر الحديث عن سقوط مرسي جنبا إلى جنب عبارة أن «مرسي رئيسي»، حتى نصل إلى آخر النجوم على الحائط وهو الفريق أول عبد الفتاح السيسي الذي تتراوح مشاعر الغرافيتي حوله بين البطولة والتمجيد وحتى الخيانة.

«الغرافيتي» متأرجح المشاعر والأحاسيس بين أزمنة لا يوجد فارق فيها إلا شهور تقلبت فيها القيادات، وظل الشارع دائما هائجا بشكل أو بآخر، ويجري قياس الهياج بالمليونيات التي تأخذ أسماء مثيرة وغالبا ما تترك آثارا من «غرافيتي» يأخذ شكل لوحات أو كلمات وعبارات متناثرة تتعصب لطرف وتكره طرفا آخر. الفارق فيها قاطع وحاسم بين أنبياء وخونة، وقديسين وأشرار، ونبلاء وسوقة، وأزمنة مضيئة وأخرى معتمة، وبين هذه وتلك لا توجد مناطق رمادية، ولكنه توجد في كل الأحوال مناطق مضحكة أو مبكية، أليس هناك من قال إن نوعا من الضحك كالبكاء!

الغريب أن أحدا لم يسأل السؤال الذي سأله الرئيس الأميركي رونالد ريغان في حملته الانتخابية أمام الرئيس جيمي كارتر حينما سأل مخاطبا المواطن الأميركي: هل أصبحت الآن بعد أربع سنوات من حكم الإدارة الديمقراطية أحسن حالا عما كنت عليه؟ تلك هي المسألة كما قال شكسبير، وهي جوهر السياسة على أية حال، هل أصبحت الأمور أفضل مما كانت عليه؟ سوف نسلم في الحالة المصرية أن الأمور لم تكن على ما يرام منذ أكثر من عامين ونصف، وكان حكم مبارك قد وصل إلى طريق مسدود حينما شاع عنه نية التوريث سواء كانت صحيحة أم لا، ولكن ما جرى بعده، ووفقا لمعاييره وشعاراته لم يكن متجاوزا لما كان قبله. وبمعايير الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية فإن إنصاف الأرقام الواضحة والناصعة تقول إن حالة المصريين لم تصبح أفضل. لا يعفي ذلك نظام مبارك من المسؤولية عن أن الأحوال كان ممكنا أن تكون أفضل كثيرا، ولكن من جاءوا بعده كانوا أسوأ كثيرا. الليبراليون احتاروا ووصلوا إلى التيه عندما سلموا الحكم للمجلس العسكري الذي شكل وزارة من ميدان التحرير، عرفت بوزارة عصام شرف، كان أكثر من نصفها بقايا عهد مبارك. ولكن السخط بدأ على المجلس بعد استفتاء التعديلات الدستورية، ومن ساعتها شاعت شعارات الدعوة لسقوط حكم العسكر الذين كانوا مع الشعب يدا واحدة من قبل. قاد «غرافيتي» سقوط حكم العسكر إلى اتفاق «فيرمونت» الشهير بين ثوار وليبراليين وناصريين مع الإخوان المسلمين، فأصبح محمد مرسي رئيسا للجمهورية ودخل ميدان التحرير دخول الفاتحين الثوار.

ولكن الزمن يسير بسرعة في الأزمنة الثورية، وشعارات الحوائط تتغير حسب علبة الألوان المستخدمة، لم يعد الليبرالي هو وحده الأضحوكة، بل كان أيضا الإخواني الذي أصبح يريد إقامة ديمقراطيته الخاصة وهو يصعد على سلم ديكتاتوري. وفي زمان سابق حاجيت واحدا من الإخوان المسلمين حول كرمه الشديد في استخدام المعايير الديمقراطية لتقييم كل الأنظمة السياسية في العالم إلا تلك التي تستند إلى الفكر الديني سواء كانت في إيران أو في غزة أو في السودان، فقد كانت تبريراته السياسية إلى الملهاة أقرب. هذه المرة انفصل الليبرالي عن الإخواني وتمزق تحالف «فيرمونت»، وبسرعة كان يعرف ما يجب عليه فعله وهو المناداة بشعار «يسقط حكم المرشد»، أما الإخواني الذي بات في الحكم فقد كان مصمما على ديكتاتورية يحركها مكتب الإرشاد تستخدم بغزارة تعبيرات «الشرعية» و«الديمقراطية» و«الحرية». لم يحدث أمر جديد منذ عهد مبارك وحتى نهاية عصر مرسي سوى تدهور الأحوال، وانهيار مستوى المعيشة، وفي الماضي قيل إن الأغنياء كانوا يزدادون غنى، أما الفقراء فكانوا يزدادون فقرا، أما الآن فقد أصبح الجميع فقراء ويزدادون فقرا أيضا. لا يوجد معيار واحد في علوم الاجتماع والاقتصاد والسياسة يقول إن المصريين أصبحوا أفضل حالا، فالقتلى استمروا في التساقط بغزارة، ومن قتل تنوعت أنواعهم، والقنوات التلفزيونية أغلقت، والشكوى من الإعلام ظلت قائمة، وكان هناك دائما قضايا مشرعة، وحينما تنتهي بالبراءة فإن الخزانة لا تنفذ قضاياها.

الآن تدخل مصر عصرا آخر، أو بدأت فصلا آخر من فصول ثورتها، «الغرافيتي» يشهد على تغير الزمن، والشعارات تقدم أبطالا جددا، ذهب أبطال «الفيس بوك» وجاء ثوار «تمرد»، وهناك تحالف ثوري جديد مكون من كل المعارضة المدنية مع مؤسسات الدولة كلها لديه فرصة جديدة قد تكون هي «باب الخروج» إلى مستقبل آخر، فلم يعد على الحائط مكان لغرافيتي جديد.