شيء من حكايات جدتي

TT

من متع شهر رمضان المبارك، حل الفوازير وسرد الحكايات. لم أعبأ بالأول ولكنني استمتعت بالثاني، ولا عجب من كاتب روائي وحكواتي. وكان مصدري الأول جدتي رحمها الله.

كنت طفلا عليلا. وكلما مسني برد الشتاء ومرضت بعثت بي والدتي رحمها الله لأقضي الليلة مع جدتي. اعتادت السيدة العجوز أن توقد لي في الشتاء المنقلة الفحمية. لم تكن هناك تدفئة مركزية ولا صوبات نفطية. كان الفحم في المنقلة الوقود الوحيد للتدفئة وعمل الشاي. كنا نجلس حولها. تلفني جدتي بالبطانية وتدفئني بحكاياتها. تضع بيضة في النار وتتركها حتى تستوي ثم تطعمني بها. «كل يا ولدي. البيض من الجنة ويشفي كل مرض»! كثيرا ما انفجرت البيضة بقوة النار واختلط بياضها وصفارها بالفحم والرماد. ولكنها كانت تجمعه لي وتضعه في قطعة خبز لآكله مع ما فيه من رماد أو فحم. البيض من الجنة!

تعمل لنفسها استكان شاي مثقلا بالسكر القند. تشربه وتبدأ بالحديث. كانت جدتي أرملة لضابط في الجيش العثماني المرابط في العراق، اليوزباشي مصطفى أغا. فجعت بمقتله في شبابها في حروب الجزيرة العربية. ودفن فيها. لم يكن هناك تلفزيون ولا راديو ولا غرامفون. فاعتاد الزوج المتعلم أن يتسلى مساء بقراءة ما يجده في سوق السراي من كتب الأثر والروايات والأشعار. واعتادت الزوجة الأمية أن تستمع إليه يقرأ لها أو يروي لها شيئا مما يقرأه. هكذا عاش اليوزباشي مصطفى مع زوجته السيدة نازندا، التي يدل اسمها على جذورها العثمانية.

لم تكن هناك مشكلات كثيرة تشغل بال الناس في تلك الأيام، لم يكن هناك إخوان مسلمون ولا سلفيون ولا بعثيون ولا ثوريون ولا حتى وطنيون. كانت أيام خير. لم يسمع الناس عن أحد يغتال أحدا من المسؤولين أو يضرم النار في عربة حنطور أو ينسف دائرة برق وبريد. البال خالٍ، فاستطاعت جدتي نازندا أن تستوعب جل ما سمعته من زوجها اليوزباشي من حكايات. راحت تتسلى بسردها لي وهي تنكش الرماد من النار. ساعة أو أقل من ساعة، وأستسلم للنوم في حضنها. تضعني على الفراش بجانبها وتنشر البطانية واللحاف علي. أستفيق أحيانا على صوتها تنطق بعبارات لم أفهمها وتردد كلمات: «أبو صبرية، يا أبو صبرية». أفهم أنها كانت تنادي جدي اليوزباشي، والد أمي. ينقبض قلبي قليلا إذ أسمعها تستفيق وتتلو شيئا مما حفظته من القرآن الكريم: «الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين.»...

أسمع كلماتها تستغفر من ربها وتتعوذ من الشيطان، ولكنني أعود فأستغرق في النوم بجانبها، أشعر بحرارة جسمها وأسمع أنفاسها وقرقرة بطنها.

أستفيق صباحا معافى مشفى. أنزل السلم من غرفتها وأهرع إلى والدتي: «ماما، بيبيتي حكت لي البارحة عن ناس يسموهم قوم عاد وثمود. تعرفيهم؟ خلي احكي لك عنهم.»...

- «لا ابني لا. أنا عندي مليون شغل».

لم تستمع لي أروي لها حكاية عاد وثمود. فلأروِها لقرائي الأفاضل في مقالتي التالية إن شاء الله.