فخ الصندوق!

TT

أظن أن تشرشل، رئيس وزراء إنجلترا الأشهر، هو الذي قال يوما، إن الديمقراطية ليست هي النظام الأمثل للحكم، كما قد يتخيل بعضنا، وإنما هي أقل النظم التي توصلت إليها البشرية، سوءا، وإن العالم في انتظار أن يصل إلى نظام أفضل منها.

هذه مقدمة ضرورية لفهم حجم ما ارتكب الإخوان في مصر، على مدى عام كامل، باسم الديمقراطية، وتحت لافتتها البراقة! فالثابت أن محمد مرسي، كان قد فاز في انتخابات الرئاسة، بـ51 في المائة تقريبا من أصوات الناخبين، وقد كان معنى هذا، بوضوح، أن من بين كل مائة ناخب مصري، ذهبوا إلى صناديق الانتخاب، هناك 49 ناخبا لم يريدوا مرسي، ولم يصوتوا له.

وكان الأمل أن يكون لدى «مرسي» من الوعي العام، ثم الوعي السياسي بشكل خاص، ما يجعله يلتقط معنى ذلك، ثم يعمل على أساسه، وهو ما لم يحدث، بكل أسف، في كل لحظة من لحظات العام كله!

ولم تتوقف الأمور عند هذا الحد، وإنما تجاوزته بكثير، عندما تصور الإخوان، عن خطأ طبعا، أن مجيء مرشحهم عن طريق الانتخاب، أيا كانت نسبة الأصوات التي حصل عليها، يعطيهم توقيعا على بياض، من 90 مليون مصري، بأن يفعلوا ما يشاءون، دون حساب ولا مساءلة، حتى ولو كان ما يفعلونه كارثيا على كل مستوى!

وكانوا كلما نبههم أحد إلى أن نسبة التصويت لصالحهم، في الانتخابات، لا تعطيهم حق الرغبة في الاستحواذ على كل شيء هكذا، إلى حد النهم، قالوا إنهم جاءوا بالصندوق!

ويوما بعد يوم، تبين أن حكاية الصندوق عندهم إنما هي حق يراد به باطل، وتحولت، مع الوقت، إلى مسألة مملة، وسخيفة، وصارت شعارا مفرغا من أي محتوى.

ولو أن أحدا عكف على تحليل خطاب «مرسي» الأخير، الذي ألقاه قبل عزله شعبيا، بـ24 ساعة، فسوف يلاحظ أن أكثر كلمة ترددت فيه على الإطلاق، بما لا يقاس على أي كلمة أخرى وردت فيه، هي كلمة «الشرعية». وقد بدا من كثرة تكرارها، ثم من طريقة «مرسي» وهو يرددها، أنه يتحدث عن شيء يعرف هو بينه وبين نفسه، أنه ينقصه!

وكان الواضح أن الإفراط في استخدام كلمة الشرعية، أو كلمة الصندوق، من جانب الرئيس المعزول، بشكل خاص، أو من جانب جماعته، بشكل عام، يعني شيئا واحدا، ووحيدا، هو بقاؤهم في السلطة، وبقاء «مرسي» على الكرسي.

ولم يشأ أحد منهم أن يصارح نفسه، ويصارحنا، بأن السلطة بالنسبة لأي حزب حاكم هي وسيلة لتحقيق مصالح الناس على الأرض، وأنها ليست غاية أو هدفا في حد ذاتها، ولا يجوز أن تكون، وأن الشرعية القانونية التي يكتسبها أي مرشح، منذ لحظة إعلان فوزه، أمام منافسه، تحتاج لزاما إلى شرعية سياسية تتحقق بالممارسة في الواقع، ولا يتوفر تحققها إلا بشرط واحد، هو رضا المحكومين في عمومهم عن الحاكم، وعن أدائه في منصبه.

وما يجب أن نتوقف أمامه طويلا، أن الأميركان إذا كانوا قد قالوا، بعد سقوط مرسي، إن الديمقراطية ليست انتخابات فقط، فإن هذا معناه أن الأداء العام للرجل، بامتداد العام، قد دفع الأميركيين إلى مراجعة مفهومهم المتوارث عن الديمقراطية، كعملية، رغم أنهم، كما نعرف، يقدسونها، ورغم أن رئيسهم نفسه يفوز في الغالب، بالنسبة نفسها التي فاز بها «مرسي» أو بشيء قريب منها.. ولكن شتان بين أداء رئيس هناك، في البيت الأبيض، وبين أداء رئيس في القاهرة، كنا نستيقظ معه كل صباح على انحدار جديد في الأداء، بما أصبح أداؤه يهدد مقومات كيان الدولة ذاتها.

وأغلب الظن، أن قصة «مرسي» وجماعته مع الحكم، سوف تؤدي مع الوقت إلى إعادة النظر بشكل جاد، من جانب الدارسين والمحللين، في مدى صلاحية «الصندوق»، وحده، لأن يكون معيارا لجدارة الفائز به، بأن يحكم.

صحيح أن هناك تجربة سابقة، هي تجربة هتلر في ألمانيا، وكيف أنه جاء، مثل «مرسي» بالصندوق.. غير أن هتلر بقي في الحكم 12 عاما كاملة، من 1933 إلى 1945، حتى تبين للألمان، وللعالم، أن الصندوق الذي جاء به، كان وبالا ليس على بلده وحده، وإنما على أوروبا كلها.. ولكننا، في حالة مرسي وجماعته، لم نستغرق سوى بضعة أشهر معدودة على أصابع اليدين، لندرك خلالها أن الصندوق الذي احتكمنا إليه، كان فخا، أكثر منه معملا مفترضا لإفراز الحاكم صاحب الكفاءة!