ما أجمله!

TT

كنا مجموعة من الأصدقاء جلسنا في غرفة استقبال صغيرة يوم 21 يوليو (تموز) عام 1969 لنتابع هبوط الأميركي نيل أرمسترونغ على سطح القمر. كان الإحساس العام بين أفراد المجموعة هو الإثارة والتوتر. في تلك الليلة التزمت الصمت. ولم أشارك في الحماس ولم تبدر مني أية إشارة لما شعرت به حقيقة.

في خضم الانشغال والهتاف حين وطئت قدما أرمسترونغ الأرض الصخرية التي لا زرع فيها ولا ماء خرجت إلى الشرفة ونظرت إلى أعلى بحثا عن القمر الذي ألفته وحين لمحته يتوسط سماء داكنة وصافية قلت له بصوت خفيض: ما أجملك.

ورغم أن نيل أرمسترونغ قد مات، تظل ذكراه حية. وتظل البيانات والدراسات التي أجريت على الصخور التي أتي بها من القمر فريق رواد الفضاء تداعب خيال العلماء والمفكرين والمصرين على فك ألغاز كونية مستعصية. غير أن الأمور لم تقف عند هذا الحد بل تجاوزته إلى المتاجرة بأحلام الفتى الطائر الذي لا تكفيه الأرض بما عليها. فقد أعلنت شركة أميركية عن نيتها لتنظيم رحلات إلى سطح القمر قبل عام 2020 بتكلفة تبلغ مليارا ونصف المليار لشخصين. وهناك شركات شرعت في خطوات مبدئية لبيع أراض على سطح القمر. ورغم مضي 44 عاما على تلك الليلة إلا أن ذكراها تلازمني بل وتحاصرني بأسئلة كثيرة.. كنت أقنعت نفسي بأنني لم أتحمس لمشروع أبولو ولا لهبوط أرمسترونغ على سطح القمر، لأنني أقدر الجاذبية الأرضية ويخيفني احتمال وجودي في مكان غير خاضع لقانون تلك الجاذبية فأجد نفسي طافية، لا طائرة ولا واقفة وقد فقدت السيطرة تماما على الحركة في هذا الاتجاه أو ذاك. ثم إن أرض الله واسعة فلماذا نصر على غزو الفضاء؟

ويأبى القمر أن يتركني في حالي. فإذا بابنتي تقرأ خبر احتمال السفر إلى القمر نظير مليار ونصف المليار فتسألني: لو دعيت للقيام بتلك الرحلة مجانا هل تقبلين؟

كنا جالستين في غرفة صغيرة اعتبرها فضائي الخاص في بيتنا لأنني أقضي فيها معظم ساعات اليقظة وأطل منها على الحديقة التي تحدد علاقتي بالكائنات الحية والنباتات التي تقاسمني أرضي.

أجبتها بلا تردد بأنني لا أريد السفر إلى القمر لأن الغرفة الصغيرة والحديقة الخضراء خارجها تلبي كل احتياجاتي. ففي هذه الغرفة كتبي وجهاز الإنصات إلى الموسيقي والمصحف في متناول يدي وأدوات إعداد القهوة على بعد خطوات والهاتف المنزلي والهاتف النقال أيضا. فلماذا أذهب إلى القمر؟ وسألتها هي: هل تلبين مثل تلك الدعوة؟

ورغم أنها مني وأنا أحتويها كمصدر أساسي يذكرني بنعمة الله علي، ورغم أوجه التشابه بيننا إلا أنها دارسة للعلوم وأنا درست اللغة والأدب. ولذلك لم تدهشني إجابتها حين قالت إنها ستلبي الدعوة لأنها تريد فك ألغاز الكون وتريد أن تنظر من علٍ إلى الأرض كبانوراما لكي تعرف ما يجري عليها حقا.

منذ تلك اللحظة قررت أن أطرح السؤال نفسه على أقربائي وأصدقائي: هل تقبل دعوة مجانية للسفر إلى القمر؟

وجاءت الأجوبة مختلفة باختلاف الأعمار والشخصيات على هذا النحو:

* أقبل إن كانت الرحلة لمدة أسبوع فقط لأن كم العمل عندي كبير ولا أستطيع تضييع وقت يزيد على أسبوع.

* ولماذا أذهب إلى القمر وأنا أريد أن أكون وسط أهلي وأصدقائي ومن أحب هنا على سطح الأرض؟

* لو كانت رحلة قصيرة سأقبل لأنني لا أستسيغ أن أرتدي بذلة الفضاء ليل نهار لمدة طويلة وأن أوجد داخل مركبة فضائية ضيقة يوما بعد يوم.

* أقبل طبعا لأنني أتصور أن الوجود في الفضاء سوف يقربني من الله كثيرا.

* أقبل الدعوة لو كانت للسفر إلى المريخ لأن كوكب المريخ يثير فضولي أكثر من القمر

* ليتني أسافر إلى القمر حيث الهدوء التام والبعد عن الصراع اليومي للوصول إلى العمل والقلق المستمر على الرزق والصحة والعيال.

وتوالت الأجوبة ولم أعثر بينها على إجابة تقنعني بتغيير موقفي. ويظل القمر في وجداني قرصا ذهبيا يتوسط سماء ليل هادئ، تتناثر من حوله نجوم مضيئة تلهمني بكلمات ملؤها الفرح بالحياة وشكر الله على نعمه.