الجمهور.. فنان!

TT

بعد تغير معادلة الاتصالات في التاريخ البشري الحديث، بفعل طوفان الاتصال بين بني آدم وبناته، صورة وصوتا ونصا، برا وبحرا وجوا، نهارا وليلا وما بينهما, صار من المهم تلمس آثار هذه الثورة الكبرى والقفزة العظمى على الأشكال التقليدية للاجتماع البشري، وكذلك ذائقة الشعوب تجاه الجمال والخير والعدل.

هي ثورة الثورات، وقفزة القفزات، وما زلنا نضع أكفنا على عيوننا لنحميها من هذا السطوع الباهر لشمس ثورة الاتصالات.

لا نستطيع تجاوزها، مهما كان رأينا فيها. أكيد، الآباء والأمهات هم من الغاضبين من «رضاعة» أبنائهم الدائمة من ثدي الاتصالات ووسائط التواصل الاجتماعي، وانعكس ذلك حتى بروز أشكال جديدة من أمراض العيون والرقبة والظهر، ورأيت صورة ظريفة تتنبأ بأشكال جباه وعيون البشر بعد زمن من الآن بفعل توالي عدة أجيال مدمنة على رضاعة هذه الأجهزة.

غير أن هذا الانسياح على الجمهور من دون وسائط، ومن دون فلترة، ليس مشكلة اليوم فقط، فلها بذور وجذور.

من ذلك، الفنون الحديثة التي أرادت التمرد على مدارس الفن العريقة.

قرأت هذه الأيام مقالة ضافية عن فنون ما بعد الحداثة في مجال الرسم والتشكيل، المقالة كتبها ناقد فني اسمه (أنطون جوكي)، في فصلية علمية اسمها (آفاق المستقبل) صادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية.

بدأها بتمهيد عن هذا اللون من الفنون، الذي يحمل في داخله شحنة تمرد على «المؤسسات» الحاكمة والناظمة للفنون وصالات العرض ومعايير النقد، وهم سعوا منذ بدايتهم الأولى إلى تجريد الفن من قيمته المادية وتحريره من دور العرض والمتاحف.

لكنهم ورغم هذا الجموح والتمرد لم يسلموا من قوانين العرض والطلب، عبر حرص عشرات الغاليريات والمتاحف الغربية والشرقية في باريس وروما ولندن وبلباو الإسبانية، ومتاحف الفن المعاصر في طوكيو وشنغهاي وبكين وهونغ كونغ، على عرض هذه الفنون في صالاتها، وكل هذه المعارض تشهد، كما ذكر الباحث، على أن فنون ما بعد الحداثة لم تستطع الإفلات تماما من قبضة النزعة الاستهلاكية.

الباحث ينبه إلى توجه بعض فناني هذه المرحلة على أثر تأملهم النقدي في جدوى صالات العرض التقليدية (الغاليري، المتحف) نحو فضاءات بديلة لعرض أعمالهم كالمتاجر والمكتبات والإعلام المرئي والشوارع وأروقة (المترو)، وذلك بهدف إخراج عامة الناس من سلبيتهم، وأخذ حاجاتهم ورغباتهم وآرائهم في الاعتبار، من منطلق نسبية الذوق الفني أيضا، لكن تخلي هؤلاء الفنانين عن دور الناقد ومؤرخ الفن والمؤسسات الفنية التقليدية، الضروري لتقويم إنجازاتهم الفنية، وتسليم هذه المهمة لجمهور غير مؤهل لذلك، ربطا قيمة أي عمل فني بشهرة صاحبه فقط! يعني خرجنا من سطوة حكم النخبة، المقنن والمنظم، إلى سطوة حكم الجمهور الغامض والانفعالي، والأهم: غير الخبير.

ما الفائدة إذن، في الغناء أمام الأصم، والرسم للأعمى!؟

المشكلة تتكرر بصور مختلفة من فنون ما بعد الحداثة إلى قصائد المديح في «فيس بوك» و«تويتر».