مأزق تونس!

TT

وصلت الأوضاع اليوم في تونس إلى مستوى يصح أن نصفه بالمأزق أو الأزمة الشائكة المتكونة من معوقات معقدة للغاية. فحتى ما كان قبل أشهر يعد حلا أصبح اليوم مشكلة مفتوحة على سيناريوهات عدة. وما يزيد في حالة التأزم مسألتان اثنتان، الأولى تراكم المؤشرات القوية التي تدل على أن الإرهاب تمكن من البلاد التونسية ودخل إليها من أكثر من بوابة. والمسألة الثانية هي ظاهرة الانقسام في صفوف النخبة وعامة الشعب بخصوص المطالبة بسقوط الحكومة وحل المجلس الوطني التأسيسي.

طبعا، الانقسام الحاصل اليوم الذي يُوظف آليات احتجاجية مثل الاعتصام هو في جانب من جوانبه نتاج ظاهرة الإرهاب وتحديدا اغتيال الناشط السياسي والنائب محمد البراهمي. بل إنه السبب المباشر للانقسام الراهن باعتبار أن الاختلافات والخلافات ليس جديدة، وعبرت عنها التصريحات والبيانات والاحتجاجات، إلى أن وصلت اليوم إلى الشارع وتحديدا ساحة «باردو» مقر المجلس الوطني التأسيسي. ويأتي ذلك في إشارة واضحة وقوية إلى تراكم أخطاء النخبة الحاكمة وفشلها في تأمين الأمن بعد جريمة الاغتيال الأخيرة، حيث طالت الأولى المناضل شكري بلعيد قبل ستة أشهر. والمشكلة الكبرى أن المجموعة التي قتلت الأول ضالعة في قتل الثاني - محمد البراهمي - بما يعني أنها تنظيمات منظمة استفادت من حالة الفوضى وقلة الخبرة وتحصلت على ما يكفيها من السلاح والانتدابات والجحور مما يجعلها تنشط وتسجل أهدافا في الصميم وتراوغ أجهزة الدولة!

وقبل أن يمضي أسبوع واحد على اغتيال محمد البراهمي بطريقة سهلة ومستبيحة جدا (في الصباح وأمام بيته) يلقى ثمانية من عناصر الجيش التونسي حتفهم (قتلا بالرصاص مع ذبح بعضهم) في جبل الشعانبي الذي شهد أحداث الألغام المتفجرة على امتداد الأشهر الأخيرة.

الظاهر يقول إن الإرهاب الحامل لبصمة الجماعات المتشددة والتكفيرية قد غزا تونس، والواضح أن ما حصل إلى حد اليوم هو بداية لمرحلة مجهولة الخسائر. لذلك، فإن التواتر السريع للضربات الإرهابية في أقل من أسبوع واحد خلق حالة من الخوف الاجتماعي الجدي إزاء الإرهاب، وفي مقابل ذلك تدافع الحكومة عن جهودها في معالجة الأوضاع وعن شرعيتها.

فهل صحيح أن كل المعارضين للحكومة والمجلس الوطني التأسيسي المطالبين بحلهما وتشكيل حكومة إنقاذ وطني، هم أقرب ما يكونون إلى الفوضى والعدمية والانتهازية السياسية أم أنها اتهامات تضليلية لا غير؟

في الحقيقة، يعد الوضع في تونس خلال هذه الأيام متأزما بأتم معنى الكلمة، ولا يحتمل المزايدات من الطرفين سواء الحاكم أو المعارض. ولكن في الوقت نفسه لا يجب أن ينسى الحاكمون أن من يحكم دائما يتحمل الخسارات، بدليل أن الحكم موصوف بالتكليف، وهو وصف قلة قليلة جدا من النخب السياسية في البلدان العربية تمعنت في معناه وتعمقت في مدلولاته.

زد على ذلك أن النخبة السياسية في تونس ارتكبت مجموعة من الأخطاء النوعية الفادحة، جعلت حتى مجهوداتها الإيجابية لا ترى كما يجب.

لقد أضاعت الترويكا منذ ستة أشهر بعد اغتيال الراحل شكري بلعيد فرصة تاريخية لم تعرف كيف تتعامل معها وتستثمرها، وهي إعلان رئيس الحكومة السابق حمادي الجبالي القيادي في حركة النهضة عن قراره، إما حل الحكومة وتكوين حكومة وحدة وطنية أو الاستقالة. ولكن الترويكا رفضت المبادرة وأجهضتها فاستقال الجبالي. ذلك الرفض لم يكن ذكاء سياسيا بالمرة، حيث كانت النهضة ستبقى في الصورة من خلال حمادي الجبالي الذي ازدادت شعبيته آنذاك، وفي الوقت نفسه ستؤكد بقبولها المبادرة حسها الوطني الذي يترفع عن التمسك بالحكم. لو تفاعلت إيجابيا مع تلك المبادرة لكانت قد خاضت حملة انتخابية مبكرة تفرض على الجميع تقدير حرصها على التوافق ونكران مصلحتها الحزبية الضيقة.

لذلك، فإن الترويكا وتحديدا «النهضة» عملت من خلال العناد السياسي على الدخول في نهج العزل التدريجي، بدليل أن شعبيتها في تراجع ومشروعيتها في انحسار، والحال أنها لو سمحت لمبادرة حمادي الجبالي بالتجسيد لقطعت الطريق أمام ظاهرة الانقسام الراهنة، ولتمت معالجة ملف المعارضة التي تحولت إلى راديكالية في مستوى رفضها من خلال الانخراط في مطلب حكومة وحدة وطنية يتحمل فيها الجميع الفشل والمسؤولية ولا أحد يُزايد على أحد.

من ناحية ثانية، فإن المجلس الوطني التأسيسي الذي يشهد اليوم أصوتا تنادي بحله وأخرى مدافعة عن استمراريته، تبدو صورته عند الشعب، بمن فيهم المدافعون عنه لأسباب مبدئية أو حزبية صرفة، مهترئة. ففي هذا الإطار، نفهم لماذا انسحب منه قرابة السبعين نائبا، ولماذا اضطر رئيس المجلس قبل أسبوعين إلى رفع الجلسة بسبب غياب خمسين نائبا.

إن المطالبين بحل المجلس الوطني التأسيسي يستندون إلى ملف ثقيل من الأخطاء، أولها تجاوز المجلس المدة التي حددها منذ تأسيسه وهي سنة لكتابة الدستور، ثم المماطلة في تشكيل الهيئة الوطنية للانتخابات، وأيضا ظاهرة الغياب اللافتة للانتباه في صفوف النواب وصولا إلى التراشق ومشاهدة ما يضحك وما هو مؤسف تحت قبته.

لقد أدى تماطل النواب وعدم مسؤولية البعض منهم إلى عدم تحديد موعد انتخابي دقيق إلى حد اللحظة، ثم إلى إرهاق الحكومة وإضعاف شرعية الحكم، ومن ثم إضعاف البلاد وجعلها لقمة سائغة في فم الإرهابيين.

نعم تونس في ورطة، وحتى لو أقيمت حكومة إنقاذ وطنية وتم حل المجلس الوطني التأسيسي فإن ورطة تعشيش الإرهاب هي قلب الأزمة الحالية.