تسليم الإدارة.. وليس الحكم

TT

هذا ما سنقرأه من سياق الحديث الذي سأحاول خلاله تفادي نقاط التناسق في الرؤى والمواقف. فبالأساس، كنت قد كتبت مقالا هنا مع بدايات ظهور ملامح الانتخابات المصرية لتسليم الفائزين الإدارة وليس الحكم. أي أن يبقى الجيش والأمن والقضاء خارج سيطرة الفائزين، حتى لو اعتبر طرحا غريبا دستوريا. غير أن القوات المسلحة وأجهزة المخابرات كانت تكافح للبقاء متماسكة في ظرف «فوضوي» اختلطت فيه النيات الحسنة بغيرها، وكان واضحا أن ملايين المنتخبين سيعضون أصابعهم التي حولت الحبر إلى فوضى ودماء. وحدث الذي حدث، ونزلت على «الإخوان» هبة السلطة فأساءوا استخدامها تجاه شعب دخلت ثقافته بيوت العرب كلها.

وقام الرئيس المعزول بتغيير القيادة العسكرية، وهي خطوة متواضعة قياسا إلى خبرة البعثيين في السيطرة على الجيش وتبعيثه. وقالوا إن الجنرال عبد الفتاح السيسي شخص متدين ميال إلى «الإخوان». وكانت مهمة الجنرال شاقة، ومن بينها كتمان مخططاته واختيار الوقت، فأظهر قوة أعصاب وسيطرة لا مثيل لهما عندما قرر توجيه إنذارين واضحين خلال تسعة أيام فقط، بينما كان في وسع مرسي عزله من الناحية الدستورية، لكنه كان يستند إلى مخطط لا يمكن لرئيس «مكفوف» في الأمن التعرف عليه. فتحرك لحسم الموقف الشعبي بالقوة، وتولى ضباط الحرس الجمهوري المعززون اعتقال رئيس الجمهورية من دون رصاصة واحدة!

وكرر «الإخوان» الخطأ، ففي الانتخابات هددوا بحرق مصر إذا لم يعلن فوز مرسي، وهذه المرة أعلنوا حربا بـ«غطاء سلمي»، متناسين أن العسكريين ورجال المخابرات هم أهل المواقف الصعبة. واشتعل الشارع المصري، ووصل المدد المالي والمعنوي والإعلامي العربي، إلا من طرف واحد ضاعت قدراته استنادا إلى تقديرات خاطئة وقراءات متواضعة وسط ثورة مصرية - خليجية - عربية - عالمية على الساحة المصرية. ووضع «الإخوان» أنفسهم في قفص «رابعة العدوية»، في مواجهة عشرات ملايين الشباب، وجيش جرار وأجهزة أمن ومخابرات لها خبرة ستين عاما في متابعتهم.

قائد مثل الجنرال السيسي لم يمنح رتبة فخرية، يعلم كيف يدير الصراع، ولديه «غرف» عمليات، ويعمل بموجب سياقات أعمال ركن توفر أكبر نسب من عوامل النجاح. لكنه يبقى في حاجة جدية لمساندة فعالة من رفاقه في الخليج، بما يضمن تأمين تدفق عناصر الاقتصاد الناجح على مستوى الأمة وليس القوات المسلحة، فالودائع الميسرة لا ينبغي أن تأخذ حيزا كبيرا من حزمة الدعم الضروري المفتوح، بدءا من الجندي وانتهاء في محطات الوقود والمخابز.. فعندما تنهض مصر تنهض معها تطلعات الانفتاح الحضري. وتشير كل المؤشرات إلى أن ما يحدث في مصر له صدى على ضفتي الخليج.

وسجل الجنرال السيسي سابقة جماهيرية كبيرة بدعوته المصريين إلى التظاهر، وكانت تلبية النداء بمستوى يدل على أنه ربما «سيضطر» إلى قبول الترشح لرئاسة الجمهورية، للقضاء على الجدل والخلافات والاختلافات، لما يمكن أن يحققه من تفوق ساحق. أما قصة الخوف من حكم الجنرالات، فباتت من روايات وأحلام المنظرين، إذا ما كان بناء على دعوة جماهيرية ساحقة معززة بقوة الدستور، لإعادة استحقاق الدور القيادي المصري، ولتعميق لغة التفاهم في مرحلة استراتيجية بالغة الخطورة والتعقيد على مستوى الشرق الأوسط.

إن ما يدور في مصر لا صلة حقيقية له بالدين، لأن مرشدا هنا، ومنظرا هناك، ومتزعما نظريا مسندا من موقع بعيد، لا يمثلون إلا صراعا سلطويا لا علاقة له بالديانات. ولعل بعض ما قاله أبو الفتوح، القيادي السابق في فكر «الإخوان»، بهذا الاتجاه يعكس تفسيرا منطقيا في فقرة منه. وما قام به جنرالات مصر سيساعد كل حركات «الإخوان» ونظراءهم من ضفة المذاهب الأخرى لفهم المعطيات الراهنة، لأنهم سيشهدون انقلابات شعبية من داخل هياكلهم، مما يؤدي إلى ظهور حركات وأحزاب وتوجهات أخرى، من العراق إلى موريتانيا التي تنفس فيها حكم العسكر المتوازن الصعداء.

وأثبت «الإخوان» أنهم طلاب حكم وسلطة، وأثبت الجنرال السيسي ورفاقه أنهم رجال مواقف صعبة، ورجال حكم، وأثبتت مراكز قوة الخليج أنها صاحبة إرادة وقدرة غير عادية على التأثير، لكن هذا الوصف لا يعفيهم من تنشيط الدعم لمصر، وألا ينسوا دعم الأردن نظرا لأهميته الاستراتيجية الكبيرة على الدوام. وهكذا نصل إلى القول: لقد أحسن الجنرال السيسي ورفاقه التوقيت والأسلوب والوسائل في القرار.